نتایج الافکار فی نجاسه الکفار

اشارة

سرشناسه : گلپایگانی، محمدرضا، 1372 - 1277

عنوان و نام پديدآور : نتایج الافکار فی نجاسه الکفار/ تقریر الحاث محمدرضا گلپایگانی، بقلم علی الکریمی الجهرمی

مشخصات نشر : قم: دار القرآن الکریم، 1413ق. = 1372.

مشخصات ظاهری : [246] ص.نمونه

شابک : 1850ریال

یادداشت : کتابنامه بصورت زیرنویس

موضوع : طهارت

شناسه افزوده : کریمی جهرمی، علی، . - 1320

رده بندی کنگره : BP185/3/گ8ن2 1372

رده بندی دیویی : 297/352

شماره کتابشناسی ملی : م 71-1990

كلمة المؤلّف

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه الذي منّ علينا ان هدانا للإسلام- وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لٰا أَنْ هَدٰانَا اللّٰهُ- و طهّرنا من أدناس الكفر و عبادة الأوثان و الأصنام التي هي أكبر الجرائم و الآثام و أعظم المعاصي العظام. و أفضل الصلاة و السلام على المبعوث إلى كافّة الأنام الذي علّمنا معالم الحلال و الحرام، و على آله الأئمة الأبرار الكرام ما كرّ الليالي و الأيّام و من الآن الى يوم القيام.

و بعد فإنّ أعظم خطر كان يهدّد الإنسانيّة منذ بدء الحياة و نشئ الإنسان هو خطر الكفر و الإلحاد، و أكبر داء يقضى على سعادة البشر و كيانه هو الشرك، و الانحراف عن مبدأ حياته، و أخطر فساد يعتري الكون و هذا النوع، الغفلة عن الخالق، و إنكاره، و اصطناع آلهة دون اللّه يعبدون.

و اىّ خطر أعظم من سقوط الإنسان عن سماء عظمة الإنسانية إلى حضيض أحطّ من عالم البهائم الّتي لا تعقل شيئا و أيّ خسارة أعظم من ابتعاده عن الخالق العظيم و التحاقه بالشياطين و دخوله أبواب الشقاء نار جهنّم خالدا فيها؟

و على هذا الأساس قال اللّه تبارك و تعالى وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 4

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ

وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ «1» و قال أمير المؤمنين عليه السلام: فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته و تنفصم عروته و تعظم كبوته و يكن مآبه الى الحزن الطويل و العذاب الوبيل. «2»

و قد تصدّى المكاتب السماوية لمحاربة الأديان الباطلة و المذاهب المفتعلة الواهية الّتي تجمعها كلمة الكفر، كي يتخلّص الإنسان من أنياب العقائد السخيفة الهدّامة، و يتشرّف بشرف التوحيد، و الإقبال الى اللّه تعالى، الذي ليس له مثيل و لاعنه بديل، و من طالع ما جاء به مكتب الوحي حول الكفّار و قرّره الدين في المنحرفين عن التوحيد، يرى انّ صفة الكفر الخبيثة تستتبع آثارا خطيرة سيئة في الدنيا و الآخرة:

امّا في الآخرة فهو ما وعد اللّه تعالى لهم من العقوبات العظيمة و العذاب الدائم، و قد اقسم اللّه سبحانه ان يملأ جهنّم من الكافرين من الجنّة و الناس أجمعين، و يحبسهم في إطباق النار و يعذّبهم أشدّ العذاب. و إليك نبذا من الآيات الكريمة القرآنية الواردة في هذا الشأن:

قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّٰهِ وَ الْمَلٰائِكَةِ وَ النّٰاسِ أَجْمَعِينَ. «3»

و قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدىٰ بِهِ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ. «4»

و قال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذٰابِ يَوْمِ الْقِيٰامَةِ مٰا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّٰارِ وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنْهٰا وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ. «5»

______________________________

(1). سورة آل عمران الآية 85.

(2). نهج البلاغة الخطبة 161.

(3). سورة البقرة الآية 161.

(4). سورة

آل عمران الآية 91.

(5). سورة المائدة الآيات 37- 36.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 5

و قال وَ وَيْلٌ لِلْكٰافِرِينَ مِنْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ. «1»

و قال إِنّٰا أَعْتَدْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ نُزُلًا. «2»

و قال الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمٰنِ وَ كٰانَ يَوْماً عَلَى الْكٰافِرِينَ عَسِيراً. «3»

و قال إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَلٰاسِلَ وَ أَغْلٰالًا وَ سَعِيراً. «4»

الى غير ذلك من الآيات القارعة النازلة في شأن الكافرين في الآخرة و شدّة عذابهم و عقوباتهم.

و امّا في الحياة الدنيا فقد خذل اللّه الكفّار و الملحدين، و حرمهم من الكرامات، و شرع أحكاما للتعامل معهم و الوقاية من شرّهم و شقائهم، كتحريم التناكح بينهم و بين المسلمين، و منع دفنهم في مقابر المسلمين، الى غير ذلك.

و من تلك الأحكام، الحكم بنجاستهم الذي حمل حكما بالغة، و اسرارا و مصالح ظاهرة و فوائد مهمّة قيّمة قال اللّه الحكيم إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «5» و أنت تعرف مدى تأثير هذا الحكم في الجوانب المختلفة: السياسيّة و الثقافيّة و الاجتماعيّة.

و لا يزال المسلمون في ظلال تعاليم الإسلام السامية يرون الكفّار أنجاسا يجتنبون مجالستهم و مزاولتهم- إلّا في حدود ما سمح به الحكم الشرعي- و قد روى عن عمر بن عبد العزيز انّه كتب: امنعوا اليهود و النصارى من دخول مساجد المسلمين و اتبع نهيه قول اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ الآية «6» و امّا أصحابنا الإماميّة رضوان اللّه عليهم أجمعين الذين كانوا ممثّلى جوهر الإسلام- فقد دأبوا على تطبيق هذا الحكم الشرعيّ المقدّس طوال القرون

______________________________

(1). سورة إبراهيم الآية 3.

(2). سورة الكهف الآية 102.

(3). سورة الفرقان الآية 26.

(4). سورة الدهر- الإنسان- الآية 4.

(5). سورة التوبة الآية 28.

(6). مجمع البيان ج 3 ص 20

نتائج الأفكار في نجاسة

الكفار، ص: 6

و الأعصار، بيد انّه وقع نوع اختلاف فنّىّ من بعض العلماء بالنسبة الى بعض الكفّار و هم الكتابيون كما نسب القول بطهارتهم الى بعض آخرين و ان لم يتحقّق ذلك.

و نحن لم نعثر على من صرح بطهارة هذه الفرقة منهم، جزما [1] الّا المرجع الكبير الراحل السّيّد الحكيم قدّس اللّه روحه الطاهرة و نوّر اللّه مرقده الشريف فورد في مجلّة عربيّة تحت عنوان: فتاوى تهمك:

س 3- سمعت أنّ سماحتكم ترون طهارة أهل الكتاب فهل صحيح ذلك؟ و في أيّة حدود؟

ج- نعم الذي أراه طهارة أهل الكتاب طهارة ذاتيّة و ان كانت أبدانهم تنجس عرضا بملاقاة النجاسة كالبول و الدم و المنى و غيرها من النجاسات فلو طهّر بدنه في الماء طهر و جازت مساورته و لا يتنجّس «1» الّا ان هذا الرأي مهما كان مستدلا فهو خلاف ما هو المشهور بين الأصحاب قديما و حديثا بل لعلّه خلاف المجمع عليه بينهم في الأعصار و الأمصار.

و قد اسهبوا البحث و استقصوا الكلام في نجاسة الكافر مطلقا سواء أ كان كتابيّا أو غير كتابيّ و استدلّوا عليه و شيّدوا بنيانه بأدلّة عديدة و براهين سديدة، بل و قد ألّفوا و صنّفوا في خصوص الموضوع رسائل مستقلّة. [2]

______________________________

[1]. و الّا فقد مال إليها بعض آخر ايضا و منهم المحقّق الكبير الآخوند الخراساني قدس سره قال في اللمعات النيّرة عند ذكر النجاسات: ثامنها الكافر بأيّ سبب من أسبابه و قد استدل على النجاسة بأخبار كثيرة واردة في أهل الكتاب و غيرهم.

لكنّه بعد ذلك قد قوّى هو بنفسه أخبار الطهارة الّا انّه قال أخيرا: و مع ذلك كان الفتوى على خلافهم جسارة و جرأة، و الاحتياط طريق

النجاة انتهى.

[2]. منها: (فصل الخطاب و كنه الصواب) في نجاسة أهل الكتاب و النصاب لشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني م 1121، الذريعة الى تصانيف الشيعة ج 16 ص 233 و منها رسالة في نجاسة ذبائح الكفّار و صنائعهم، للبهائي م 1031، الذريعة ج 24 ص 65 و منها رسالة في نجاسة الكافر فارسية مطبوعة لسيّد بنده حسن بن سلطان العلماء محمد النقوى م 1295 ألّفها في جواب سؤال ورد من لندن فأجاب عنه، الذريعة. ص 66 و منها رسالة في نجاسة الكافر فارسيّة مطبوعة لممتاز العلماء. و هي أيضا في الجواب عن السؤال المذكور، الذريعة. ص 66

______________________________

(1). رسالة الإسلام عدد 201

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 7

و اقتداء بهم قدس اللّه أسرارهم كتبت هذه الرسالة التي بيدك ايّها القارئ الكريم.

و هي نبذة من محاضرات علميّة و دراسات فقهيّة لسيّد الفقهاء و المجتهدين الذي لم يأل جهدا في خدمة الإسلام و كيان المسلمين، سماحة المرجع الأعلى و أستاذنا الأكبر، آية اللّه العظمى، السيّد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني مد ظلّه العالي، و قد ألقاها على جمّ غفير و جماعة كثيرة من روّاد العلم و عشّاق الفضيلة الذين كانوا يجتمعون حوله و يحضرون مباحثه و دروسه العالية في الحوزة العلميّة بمدينة قم المقدّسة، في سنة 1388 من الهجرة النبويّة، و هي درر لامعة، و جواهر ثمينة، التقطتها من بحر علم فقيه كبير قلّ ما يأتي الزمان له من نظير، صانه اللّه عن المخاطر و الحدثان و ادام اللّه ظلّه ذخرا لحوزة الإسلام و دفاعا عن القرآن الكريم.

و قد سمّيت كتابي هذا ب (نتائج الأفكار) في نجاسة الكفّار، و أرجو من اللّه تعالى- الذي لا يرجى الّا

هو- ان يجعله بفضله و إحسانه خدمة علميّة تستتبع رضوانه و قبول القارئ المحترم.

قال اللّه تعالى وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اللّٰهِ أَكْبَرُ. «1»

و قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: الا و انّ اللّسان الصالح يجعله اللّه تعالى للمرء في الناس خير له من المال يورّثه من لا يحمده «2» أكرمنا اللّه بالاهتداء بهداه و حرّية النفس و التحرير من مكائد الأجانب

______________________________

و منها رسالة في نجاسة الكافر لتاج العلماء. م 1311 فارسيّة مطبوعة، الذريعة. ص 66 و منها رسالة في نجاسة الكافر، فارسيّة لميرزا محمد على صاحب الهندي و هي جواب استفتاء، ط 1286 الذريعة. ص 66 و منها رسالة في نجاسة الكافر لناصر حسين الجنفورى م 1313 الذريعة. ص 66 و منها رسالة في نجاسة الكافر للقاضي نور اللّه المرعشي. الذريعة. ص 66 و منها رسالة في نجاسة المشركين بالذات و الصفة ليوسف الفقيه العاملي. الذريعة. ص 66.

______________________________

(1). سورة التوبة الآية 72

(2). نهج البلاغة الخطبة 118

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 8

و الكفّار، عملة الابالسة و الشياطين، و أبادهم عن وجه الأرض و جعلهم عبرة للناظرين.

جمادى الأولى سنة 1412 ه على الكريمي الجهرمى

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 11

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على خير خلقه و أشرف بريّته ابى القاسم محمّد و على أهل بيته الطيّبين الطاهرين المعصومين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين من الآن الى قيام يوم الدين [1]

من جملة النجاسات الّتي بحث عنها الفقهاء، الكافر

اشارة

، فإنّهم قدّس اللّه أسرارهم قالوا: النجاسات عشرة أنواع: الأوّل و الثاني: البول و الغائط ممّا لا يؤكل لحمه إذا كان له نفس سائلة. الثالث: المنى من كل حيوان ذي نفس سائلة. الرابع:

الميتة

كذلك. الخامس: الدم، السادس و السابع: الكلب و الخنزير. الثامن:

المسكرات، التاسع: الفقاع. العاشر: الكافر.

قال المحقّق في الشرائع: و ضابطه كلّ من خرج عن الإسلام أو من انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج و الغلاة «1»

______________________________

[1]. نلفت انظار القرّاء الكرام الى انّ سماحة سيّدنا الأستاد الأكبر دام ظله الشريف لا يزال يفتتح دراساته و ابحاثه العالية بهذه الخطبة الشريفة نصّا

______________________________

(1). راجع الشرائع طبع تهران ج 1 ص 53- 51

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 12

و قد استدلّ على نجاسة الكافر بأمور: الكتاب و السّنّة و الإجماع امّا الكتاب فبآيات كريمة منه.

منها قول اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شٰاءَ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. «1»

هذه الآية الكريمة من سورة التوبة المعروفة بالبراءة أيضا لأنّها افتتحت بها و نزلت بإظهار البراءة من الكفّار سنة تسع من الهجرة النبويّة صلّى اللّه عليه و آله و كانت سنة ذات حركات مهمّه و نهضات عظيمة تجاه الكفّار، و كانت لها ذكريات خالدة.

و من جملة تلك الذكريات الّتي لها أهميّة كبيرة في تاريخ الإسلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دفع هذه السورة الى ابى بكر أوّلا كي يقرأها على الناس بمكّة ثمّ بعث عليّا عليه السلام خلفه «2» ليأخذها منه و يقرأها بنفسه على الناس بها فجاء و قرأها عليهم و نادى بالبراءة من المشركين، و قطع العصمة و الموالاة، بينهم، كما انّ اللّه تعالى في هذه السّنة و في نفس السّورة منع الكفّار عن عمارة المساجد أو المسجد الحرام، و أمر ان

يكون ذلك بأيدي المسلمين «3» ثمّ قال سبحانه بعد ذلك يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

وجه الاستدلال بها انّ اللّه تعالى نصّ فيها على نجاسة المشركين. و هم جميع أصناف الكفار من الملحد و عابد صنم و يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و

______________________________

(1). سورة التوبة الآية 28

(2) ففي فصول المهمّة لابن صبّاغ المالكي ص 24: روى الترمذي انّه (ص) بعث ببراءة، أو قال:

سورة التوبة، مع ابى بكر ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد ان يبلغ عنّي إلّا رجل من أهل بيتي أو قال:

لا يذهب بها الّا رجل هو منّى و انا منه فدعا عليّا فأعطاه إيّاها.

(3) قال اللّه تعالى مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي النّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 13

زنديق و غيرهم. [1]

و قد أورد عليه بأنّ الآية تدلّ على نجاسة صنف خاصّ من الكفار و هو المشرك، اى القائل بالشريك للّه سبحانه، لا جميع أصنافهم، كمن أنكر وجود الواجب و جحد مبدأ العالم أساسا أو من أنكر النبوّة و الرسالة، لعدم كون إنكار المبدء أو الرسالة من قبيل الإشراك للّه تعالى، فانّ المتبادر من معنى المشرك هو من اعتقد مع اللّه إلها آخر أو عبده، و الحاصل انّ الدليل أخصّ من المدّعى لانّ المدّعى نجاسة كل كافر و الدليل لا يثبت إلّا نجاسة خصوص المشرك منهم.

قال صاحب المدارك قدّس سرّه موردا على المحقّق- في استدلاله بالآية الكريمة: اللّازم من ذلك نجاسة المشرك خاصّة و هو أخصّ من المدّعى، إذ من المعلوم انّ من افراد الكافر ما ليس بمشرك قطعا فلا

يصلح لإثبات الحكم على وجه العموم. [2]

و فيه انّ المفهوم من لفظ المشرك هو من جعل للّه سبحانه ندّا و نظيرا و

______________________________

[1]. يقول المقرّر: و قد استدلّ بها على نجاسة مطلق الكافر كثير من الاعلام و الأساطين كالسيّد ابن زهرة و العلّامة و غيرهما قال السيّد في الغنية: و الكافر نجس بدليله- الإجماع- و بقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و هذا نصّ و كل من قال بذلك في المشرك قال به فيمن عداه من الكفّار و التفرقة بين الأمرين خلاف الإجماع انتهى كلامه و قال العلّامة في التذكرة ص 8: الكافر عندنا نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

لا فرق بين ان يكون الكافر أصليّا أو مرتدا و لا بين ان يتديّن بملّة أولا و لا بين المسلم إذا أنكر ما يعلم ثبوته من الدّين ضرورة و بينه، و كذا لو اعتقد المسلم ما يعلم نفيه من الدين ضرورة انتهى و قال المحقّق القميّ في جامع الشتات ج 1 ص 12: المعروف من مذهب الأصحاب نجاسة أهل الكتاب و المجوس ايضا و الأقوى عندي ذلك و ادّعى جمع من علمائنا إجماع الشيعة على نجاستهم و الآية الشريفة يعني قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ و الأحاديث الكثيرة تدلّان على ذلك انتهى

[2]. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام الطبع القديم ص 101 و الطبع الجديد ج 2 ص 295- 294 يقول المقرّر: و قد يجاب عن هذا الإيراد بعدم القول بالفصل كما أشير إليه في عبارة الغنية الّتي نقلناها في التذييلات السابقة الّا انّه أورد عليه بعض بأنّه خروج عن التّمسك بالآية.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 14

اتّخذ له مثلا و شريكا،

و هذا مفهوم واسع له جوانب مختلفة و إبعاد متعدّدة فالشرك غير مختصّ بمقام الذات بل يجري في ناحية الصفات، و كذا في الأفعال كالخلق و الرزق، و في العبادة، حيث انّه على وزان التوحيد الذي ينقسم على أربعة أقسام، و له أربعة معان: توحيد الذات، و توحيد الصفات، و توحيد العبادة، و توحيد الخلق.

فالمشرك تارة يعتقد الشريك له تعالى في ناحية الذات الذي هو واجب الوجود و يقول بأصلين قديمين بالذّات.

و اخرى يقول به في مقام الصفات بان كان يرى صفات اللّه تعالى زائدة على ذاته.

و ثالثة في مقام العبادة بأن يجعل العابد في عبادته نصيبا لغير اللّه و لو بان يعبد غير اللّه لزعمه أنّه واسطة بينه و بين اللّه تعالى و مقرّبه اليه كعبدة الأصنام و الأوثان الذين كانوا يجعلونها وسائل و ذرائع الى الخالق و قد بيّنهم اللّه تعالى في القرآن الكريم بقوله وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلّٰا لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اللّٰهِ زُلْفىٰ إِنَّ اللّٰهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مٰا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. «1»

و رابعة بالنسبة إلى مقام الصنع و تدبير النظام و في مقام الخلق و الرزق بان يسند الخلق أو الأفعال الخاصّة باللّه تعالى الى غيره، فإذا أنكر كون اللّه خالقا لكلّ المخلوقات فلا بدّ من ان يسند الخلق الى غيره سبحانه لعدم إمكان تحقّق الممكن و وجوده بدون علّته، و اسناد الخلق الى غيره تعالى هو اشراك الغير مع اللّه تعالى في الخلق واقعا، و نسبة عمل خاص باللّه الى غيره شرك حقيقة سواء أثبته للّه تعالى أيضا أم لا، بل و ان أنكر أصل وجوده تعالى فيجري عليه حكم المشرك، و من المعلوم انّ هذا

المفهوم الواسع العامّ الذي ذكرناه للمشرك شامل لجميع الكفّار

______________________________

(1). سورة زمر الآية 3

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 15

أو أكثرهم فيدخل في هذا العنوان: الدّهريّة و المجوس و اليهود و النصارى و غيرهم بواحد من معانيه و نواحيه.

و ان شئت فقل انّه و ان أطلق المشرك لكنّه أريد منه الكافر مطلقا و ان لم يطلق عليه المشرك اصطلاحا.

و يؤيّد ذلك قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ افْتَرىٰ إِثْماً عَظِيماً «1» فقد صرّح بأنّه لا يغفر كبيرة الشرك، فهل ترى من نفسك ان لا يغفر اللّه لمن أشرك به و جعل له ندّا و نظيرا و لكنّه سبحانه يغفر من أنكر أصل وجوده تعالى و لم يعتقد بالصانع و الخالق كالدهريّة الذين يقولون مٰا هِيَ إِلّٰا حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا [1]؟ فهو ايضا كمن أشرك باللّه و لذا لا نتمسّك هنا بالأولويّة على ما تمسّك به البعض، فلعلّها مستهجنة بل نقول: انّ المراد من الشرك هو مطلق الكفر و يكون هو اسما و اصطلاحا لجميع أصنافه، و عنوانا مشيرا إليها، كما يظهر ذلك من التأمل في سياق الآية الكريمة حيث وقعت في ذيل الخطاب بأهل الكتاب، قال اللّه تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ آمِنُوا بِمٰا نَزَّلْنٰا مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهٰا عَلىٰ أَدْبٰارِهٰا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمٰا لَعَنّٰا أَصْحٰابَ السَّبْتِ وَ كٰانَ أَمْرُ اللّٰهِ مَفْعُولًا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.

و الحاصل: انّ الكفر ذنب لا يغفر اىّ صنف من أصنافه كان، و مطلق الكفر على اختلاف اشكاله و مجرّد التديّن بغير دين اللّه شرك، و

يترتّب عليه أحكامه، فتارة يحكم على المتّصف به بالنجاسة و اخرى بمنع دخول المساجد و ثالثة

______________________________

[1]. سورة الجاثية الآية 24 و مثلها قوله تعالى حكاية عن قولهم إِنْ هِيَ إِلّٰا حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، سورة المؤمنون الآية 37

______________________________

(1). سورة النساء الآية 48

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 16

بوجوب مقاتلته، فترى انّه تعالى يقول قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ «1» فإنه قد حكم بقتال جميع هذه الأصناف و من له هذه الأوصاف، فالأوصاف المذكورة كفر و هي أيضا شرك. و الحكم بالنجاسة، و المنع من دخول المسجد، و وجوب المقاتلة، و غيرها أحكام مترتّبة على الكفر.

و ان شئت زيادة توضيح و تأييد في المقام فدقق الفكر في سائر آيات هذه السورة و أمعن النظر في قوله تعالى فيها مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ. «2» فقد ابتدأ بذكر المشركين و وصفهم بقوله شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فلو لم يكن المراد من المشرك هو الكافر لكان اللّازم ان يقول: شاهدين على أنفسهم بالشرك، و على هذا فيستفاد منه انّ السبب الوحيد في منع المشركين عن عمارة مساجد اللّه هو الكفر.

و انظر الى قوله تعالى وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا

إِلٰهاً وٰاحِداً لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ «3» فانّ من المعلوم انّ هؤلاء الذين ذمّهم اللّه تعالى و عيّرهم باتخاذ الأحبار و الرهبان أربابا و لامهم على ذلك لم يتّخذوا الأحبار و الرهبان شركاء للّه في ذاته أو في خلقه بل اتّخذوهم أربابا في العبادة نظير ما صدر عنهم في مورد المسيح و

______________________________

(1). سورة التوبة الآية 29

(2). سورة التوبة الآية 17

(3). سورة التوبة الآية 31- 30

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 17

تشريع الأحكام و تحريم الحلال و تحليل الحرام و قد سمّى اللّه تعالى عملهم شركا و قال سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ.

و الحاصل: انّ اليهود و النصارى مشركون في صريح القرآن [1] و لذا قال العلّامة في التذكرة ج 1 ص 442 في ضمن عدّ شرائط الذمّة: و لا يظهروا شركهم في عيسى و عزير انتهى.

و على هذا الجملة فاتخاذ غير اللّه في قبالة معبودا و مطاعا ايضا شرك، كما انّ اتّخاذ الشريك له في ذاته و جعل الابن و الأنداد و الأمثال له تعالى شرك.

______________________________

[1]. قال الفاضل المقداد رضوان اللّه عليه عند الحكم بتحريم نكاح الكتابيّة و الاستدلال عليه: انّهن مشركات و كلّ مشركات نكاحهنّ حرام فنكاح اليهوديّات و النصرانيّات حرام اما الصغرى فلقوله تعالى وَ قٰالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّٰهِ وَ قٰالَتِ النَّصٰارىٰ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّٰهِ الى قوله سبحانه عَمّٰا يُشْرِكُونَ و امّا الكبرى فلقوله تعالى وَ لٰا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ (سورة البقرة الآية 220) و الجمع المعرّف بلام الجنس للعموم.

ان قلت: الصغرى ممنوعة إذ لا قائل اليوم من اليهود بذلك بل كان شرذمة و انقرضوا فلا يتناول الحكم الموجودين اليوم.

قلت: الحجّة في قوله تعالى لا في قولهم و

قد أخبر اللّه تعالى عنهم بذلك إذ الجمع المحلّى باللّام للعموم كما تقرّر في الأصول إلى آخر كلامه فراجع التنقيح الرائع ج 3 ص 97 أقول: هذا مضافا الى انّ قولهم بالتّثليث: الأب و الابن و روح القدس، معروف.

و حكى الشيخ محمّد عبده عن كتاب إظهار الحق: نقل انّه تنصّر ثلاثة أشخاص و علّمهم بعض القسّيسين العقائد الضرورية سيّما عقيدة التثليث و كانوا في خدمته فجاء محبّ من أحبّاء هذا القسّيس و سأله عمّن تنصّر، فقال: ثلاثة أشخاص تنصّروا فسأل هذا المحبّ: هل تعلّموا شيئا من العقائد الضروريّة؟ فقال: نعم، و طلب واحدا منهم ليرى محبّة فسأله عن عقيدة التثليث فقال:

إنك علّمتني انّ الآلهة ثلاثة: أحدهم الذي هو في السماء، و الثاني الذي تولّد من بطن مريم العذراء، و الثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة فغضب القسّيس و طرده و قال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم و سأله فقال: إنّك علّمتني انّ الآلهة كانوا ثلاثة و صلب واحد منهم فالباقي إلا هان فغضب عليه القسّيس ايضا و طرده، ثم الثالث و كان ذكيّا بالنسبة إلى الأوّلين و حريصا في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علّمتني حفظا جيّدا و فهمت فهما كاملا بفضل السيّد المسيح: انّ الواحد ثلاثة و الثلاثة واحد و صلب واحد منهم و مات فمات الكلّ لأجل الاتّحاد و لا إله الآن و الّا يلزم نفى الاتّحاد انتهى راجع المنار، ج 6 ص 458

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 18

و بعبارة أخرى كما انّ المجوس القائلين بفاعلين فاعل الخير المسمّى عندهم ب (يزدان) و فاعل الشّر المسمّى عندهم ب

(اهريمن) و المعتقدين بالنور و الظلمة مشركون، كذلك من اتّخذ إلها و معبودا آخر سوى اللّه يكون مشركا، و كما يتحقّق الشرك بالقول بتعدّد واجب الوجود، كذلك يتحقّق بإنكار اللّه تعالى و جعل ما كان له سبحانه لغيره.

و ان أبيت مع ذلك كلّه عن قبول كون الثاني من الشرك و التزمت بكونه كفرا في الحقيقة لا شركا فالذي يسهّل الخطب هو استعمال الشرك في الكفر و الكفر في الشرك في القرآن الكريم، و التعبير عن كلّ واحد منهما بالآخر [1] من باب استعمال اللّفظ الموضوع للخاصّ في العام، و بالعكس، و فيما نحن فيه استعمل الشرك في الكفر، و القرينة القطعيّة قائمة على ارادة الكفر من الشرك، و هي عدم مناسبة منع المشرك المصطلح اعنى من اتّخذ شريكا للّه سبحانه عن دخول المسجد مع تجويز ذلك لمن أنكر اللّه تعالى و نفاه من أصله و جحد مبدأ الكون رأسا.

و بعبارة أخرى لا ملائمة بين منع المشرك، و بين إباحته بالنّسبة إلى المنكر.

و ممّا يشهد لإطلاق الشرك على الكفر ما روى عن الفضل: دخل على ابى

______________________________

[1]. فترى انّ اللّه تعالى يقول لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قٰالَ الْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْوٰاهُ النّٰارُ سورة المائدة الآية 75، فقد أطلق الشرك على ما هو كفر اصطلاحا و عبّر عنه بالكفر أوّلا في نفس الآية، و قال تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلٰاثَةٍ وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلّٰا إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّٰا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ سورة

المائدة الآية 76. ترى انّه أطلق الكفر على القول بأنّ اللّه ثالث ثلاثة الذي هو شرك صريح، و هذه الآية مشعرة بأنّ اللّه عند اليهود ثاني اثنين، قال في الجواهر: و لا خفاء في انّ القول بكون اللّه ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة شرك محض و مع ذلك يقول اللّه تعالى لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 19

جعفر عليه السلام رجل محصور عظيم البطن فجلس معه على سريره فحيّاه و رحب به فلمّا قام قال: هذا من الخوارج كما هو قال: قلت: مشرك فقال: مشرك و اللّه مشرك. «1»

ترى انّ الامام أبا جعفر عليه السلام أطلق المشرك على هذا الذي كان من الخوارج مع أنّهم مؤمنون باللّه يوحّدونه و لا يشركون به شيئا بظاهر حالهم و مقالاتهم و لا يعتقدون في اللّه شيئا يخالف عقيدتنا بل شعارهم الخاص بهم الذي قالوا تجاه أمير المؤمنين على عليه السلام مخاطبين له: لا حكم الّا للّه، هذا.

و لكنّ الإنصاف انّه على فرض كون الشرك و الكفر شيئين و انّ الأوّل أخصّ من الثاني فمجرّد إطلاق المشرك على الكافر في بعض الموارد لا يوجب و لا يقتضي ظهور الآية الكريمة أيضا في ذلك.

اللّهمّ الّا ان يقال باستفادة ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع، فانّ العرف إذا سمع قول اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، و قوله تعالى وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، يفهم بارتكازه انّ ما هو المناط في نجاستهم هو الكفر و انّ الملاك في وجوب مقاتلتهم ذلك ايضا فحيثما وجد و تحقّق هذا المعيار اعنى الكفر يترتّب عليه حكم النجاسة و وجوب المقاتلة، و لا يفهم انّ هذين الحكمين اختصّا بالمشرك بمعناه الخاص

و الّا لكان منكر المبدأ خارجا عنه، و على الجملة فالعرف لا يرى له خصوصيّة أصلا بل يفهم انّ الكافر نجس و يجب مقاتلته و انّ هذين الحكمين و كذا غيرهما من الأحكام تجري على كلّ فرد من افراد الكافر.

نعم قد يحكم الشارع بحكم خاص على صنف خاص من الكفّار دون غيره لمصالح خاصّة نظير وجوب القتل المختصّ بالكافر الحربي دون غيره لانّ حفظ المملكة الإسلامية و كيان المسلمين و إعلاء كلمتهم و سياسة النظام و تدبير

______________________________

(1). ذكري الشيعة للشّيخ الشهيد ص 13، و ضبط اسم الراوي فضيلا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 20

الأمور و جريانها تقتضي قتل الحربيّ دون المتسالم الذي يعطى الجزية، و من المعلوم انّ هذه الأحكام معدودة مضبوطة مستفادة من أدلّة خاصّة و الّا فلا فرق بين أصناف الكفّار، هذا، و قد فسّرت الآية في كلمات المفسّرين على نحو ما ذكرناه.

ان قلت: فإذا كان المشركون نجسا لا لخصوصية شركهم بل بملاك كفرهم كما ذكر فما وجه العدول عمّا هو الملاك التّام إلى غيره؟ و لما ذا لم يقل اللّه تعالى: انّما الكافرون نجس؟.

نقول: لعلّ ذلك لانّ الكافر الذي كان يدخل المسجد الحرام و كان بينه و بين المسلمين ارتباط و مواصلة و يتكاتفون معه في التجارات و ترويج الأسواق و الّذي ابتلى به المسلمون كان كافرا خاصّا و هو المشرك و امّا الآخرون فلم يكن لهم اهتمام بالمسجد بل كانوا- كما تعلم- يأتون بالفيل لهدم أساسه و تخريب بنيانه قال اللّه سبحانه أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحٰابِ الْفِيلِ. «1»

و الحاصل: انّ الآية نازلة حسب حوائجهم و ابتلائاتهم و مطابقة لشئونهم و حالاتهم و الّا فالكفر بواقعة ملّة

واحدة في أيّ صورة و حالة و على اختلاف شعبه و تشتّت مناهجه و أغصانه و منهما تغيّر شكله و تبدّلت ألوانه.

و امّا ما ترى من قبول الجزية من اليهود و النصارى دون غيرهما من أصناف الكفّار فهو لمكان اعترافهم باللّه و قبول الأنبياء و الكتب السماوية خصوصا بلحاظ احتوائها لاخبار خاتم النبوّات فهم لا محالة في معرض الانتباه و الاستبصار، و ينتظر منهم الرجوع، و إقبالهم إلى الإسلام و اعتناقهم به بخلاف المشركين و الملحدين فإنّه لا يظنّ بهم و لا يرتجى منهم ذلك غالبا. فالجزية و غيرها من الأحكام الخاصّة الأخرى الجارية في خصوص اليهود و النصارى لا

______________________________

(1). سورة الفيل الآية 1

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 21

تقتضي خروجهم عن المشركين و الكفار، كما تقدّمت الإشارة الى ذلك ايضا.

ان قلت: انّ في بعض الآيات الكريمة اشعارا بالاختصاص، و انّ المشركين هم عبدة الأصنام و الأوثان مثلا، و لا يعمّ غيرهم.

منها قوله تعالى مٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ. «1»

و منها قوله تعالى وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً. «2»

و منها قوله تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. «3»

و منها قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ الصّٰابِئِينَ وَ النَّصٰارىٰ وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. «4»

و منها قوله عزّ و جلّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. «5»

فإنّ عطف المشركين على أهل الكتاب بالواو في الآية الاولى و الخامسة، و عطف «الذين أشركوا» على «الذين أوتوا الكتاب» في الثانية،

و «على اليهود» في الثالثة، و «على الذين هادوا في الرابعة مشعر بالتّغاير و التّقابل.

نقول: انّه كلّما ذكرا معا فهو كذلك الّا انّ الكلام في ذكر المشرك وحده فانّ المراد منه حينئذ مطلق الكافر. [1]

______________________________

[1]. قال السيّد في المدارك الطبع الجديد ج 2 ص 296: و ربّما كان في الآيات المتضمّنة لعطف المشركين على أهل الكتاب و بالعكس بالواو إشعار بالمغايرة

______________________________

(1). سورة البقرة الآية 105

(2). سورة آل عمران الآية 186

(3). سورة المائدة الآية 82

(4). سورة الحج الآية 17

(5). سورة البيّنة الآية 1

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 22

ثمّ انّ كلمة (إنّما) الدّالّة على الحصر، المذكورة في صدر الآية لا تضرّ بالاستدلال بالآية فإنّ الحصر هنا إضافي بالنسبة إلى الطهارة، و من باب قصر الموصوف على الصفة مثل: انّما زيد قائم حيث يفيد انّ القيام فقط ثابت لزيد لا القعود و نحوه فهو لإثبات خصوص القيام لزيد و نفى ما سواه عنه، و هذا بخلاف قولنا: انّما القائم زيد حيث يثبت القيام لزيد، و ينفى عمّن سواه، كعمرو و بكر، فمفاد الآية انّ المشركين نجس فقط لا طاهر، فلا يكون لهم من الصفتين إلّا النجاسة.

و العجب من الفخر الرازي حيث انّه فسّرها بعكس ذلك و انّ النجس من أصناف الإنسان هو المشرك وحده، و غير المشرك منه يكون طاهرا، و بما انّ أبا حنيفة كان يقول بطهارة المشركين و يفتي بنجاسة أعضاء المحدث و عليه بنى نجاسة الماء المستعمل في الحدث الأكبر و الأصغر فقد طعن عليه الفخر في تفسيره بأنّ كلامه في الموضعين مخالف للآية الكريمة [1] حيث انّ المستفاد منها انّ المشرك نجس، و المؤمن لا ينجس، و الحال انّ أبا حنيفة و

من سلك مسلكه يقولون: المشرك طاهر و المؤمن في حال الحدث نجس فقلّبوا الأمر.

و الحاصل انّ الرازي قال: معنى الآية انّ المشرك وحده نجس لا غيره.

______________________________

[1]. أقول هذه عبارته في تفسيره ج 4 ص 614: المسئلة الرابعة قال أبو حنيفة و أصحابه: أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية و بنوا عليه انّ الماء المستعمل في الوضوء و الجنابة نجس ثم روى أبو يوسف انّه نجس نجاسة خفيفة و روى الحسن بن زياد انّه نجس نجاسة غليظة و روى محمّد بن الحسن انّ ذلك الماء طاهر. و اعلم انّ قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدلّ على فساد هذا القول لانّ كلمة انّما للحصر و هذا يقتضي ان لا نجس الّا المشرك فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص و العجب انّ هذا النص صريح في انّ المشرك نجس و في انّ المؤمن ليس ينجس ثمّ انّ قوما قلبوا القضيّة و قالوا: المشرك طاهر و المؤمن حال كونه محدثا أو جنبا نجس و زعموا انّ المياه الّتي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهّرة و المياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة و هذا من العجائب.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 23

و لكن قد اشتبه عليه الأمر، و استفاد من الآية خلاف ما كانت الآية بصدده، فإنّها تفيد عدم حصول الطهارة لهم في آن من الآنات ما دام الوصف العنواني ثابتا لهم، اى ما داموا مشركين و متّصفين بهذا الوصف، و كلامه صحيح لو كانت العبارة: إنّما النجس المشركون، فكم فرق بين قولنا: انما زيد شاعر و بين قولنا: انّما الشاعر زيد، فالأوّل يقال لمن أراد مثلا تعلّم الفقه أو الأصول من زيد

فيقال له: انّما زيد شاعر يعنى انّه ليس فقيها و لا أصوليّا كي تتعلّم منه ذلك، فليس هو الّا شاعرا و امّا الثاني فإنّه يقال لمن أراد استماع الشعر و تعلّمه من زيد و عمرو و بكر فيقال له: انّما الشاعر زيد، اى انّ غير زيد ليس شاعرا بل الشاعر زيد فقط.

و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل الأوّل لأنّه قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و لم يقل: انّما النجس المشركون، و الحاصل انّه لا إشكال أصلا من ناحية الحصر.

ما هو المراد من النجس؟

النجس و النجاسة بحسب اللّغة مطلق القذارة، و بحسب الشرع قذارة خاصّة تترتّب عليها أحكام معيّنة، و هذا لا كلام فيه، و انّما الكلام في انّ إطلاق النجاسة على هذا المعنى هل هو بعنوان الحقيقة الشرعية و انّه كان يتبادر منه المعنى المزبور عند نزول الآية الكريمة، أو لم يكن كذلك بل الشارع أفاد هذا المعنى بمعونة القرائن و لا يزال هو كذلك، كي لا يمكن الحمل على هذا المعنى الّا مع ثبوت القرينة؟

ادّعى كثير من الاعلام انّ استعمال النجاسة في هذا المعنى كان منذ زمن النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنحو الحقائق الشرعية، كما انّ الطهارة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 24

أيضا كذلك فمتى ورد حكم من الأحكام المربوطة بها استفيد منها هذا المعنى أعني الطهارة الشرعيّة و هي إحدى الطهارات الثلاث: الوضوء، و الغسل، و التيمّم، أو الحالة الحاصلة للمتطهّر عقيب احدى تلك الثلاث مثلا، فكان المسلمون عند سماع قول اللّه تعالى وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً «1» أو قوله تعالى وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا «2» يستفيدون- باعمال الشارع و تصرّفه

من أوّل الأمر- الطهارة الشرعية من الحدث أو الخبث و كما انّ الصحابة كانوا يتبعون نبيّهم الموحى إليه في أحكام الكتاب و السنة و غيرها، كذلك كانوا يتبعونه في حقائق هذه الألفاظ، و ممّن ادّعى الحقيقة الشرعيّة و بالغ عليه كثيرا هو صاحب الحدائق قدّس سرّه. «3»

و أورد بعضهم بأنّ دلالة الآية على نجاسة الكفّار و ان كانت تامّة غير قابلة للإنكار الّا انّ المراد من النجاسة هو القذارة أي المعنى اللّغوي فلا حقيقة شرعيّة في البين.

و فيه انّ الظاهر منها هو النجاسة المصطلحة اى العينيّة الذاتيّة.

هذا مضافا الى انّه منقوض أوّلا في خصوص بعض بل و كثير من الكفّار حيث انّه في غاية النظافة الظاهريّة بحيث لا يرى في ظاهره قذارة أصلا.

و ثانيا بأنّ بعض المسلمين ايضا غير نظيف و بالجملة فالنجاسة اللغويّة و العرفيّة لا تختصّ بالمشركين بل يشاركهم فيها غيرهم من المسلمين. [1]

و قد ظهر ممّا ذكرنا انّ ما أصرّ عليه الفقيه الهمدانيّ قدّس سرّه من الإيراد على صاحب الحدائق مدّعيا انّ المراد من النجاسة هو المعنى اللّغوي، في غير

______________________________

[1]. يقول المقرّر: و هنا وجه آخر في الجواب عنه و هو انّ بيان النجس العرفي أي القذارة خلاف وظيفة الشارع أو انّه ليس من وظيفته.

______________________________

(1). سورة الفرقان الآية 48.

(2). سورة المائدة الآية 6

(3). راجع الحدائق الناضرة ج 5 ص 165

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 25

محلّه.

و التحقيق ان يقال: انّه لا حاجة في إثبات المطلوب إلى إثبات الحقيقة الشرعيّة، فإنّ ظهور النجس في النجاسة الشرعيّة ممّا لا يقبل الإنكار، و هذا يكفينا في إثبات ما نحن بصدده سواء كان ذلك من باب المجاز الشائع أو من قبيل استعمال المشترك المعنويّ

في أحد افراده.

و يمكن ان يقال هنا ايضا تثبيتا للمرام و تتميما للكلام انّه رتّب النهى عن قربهم من المسجد الحرام- في الآية الكريمة- على نجاستهم حيث قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلٰا يَقْرَبُوا. و النهى في الحقيقة متوجّه إلى المؤمنين و هم مأمورون بمنع المشركين عن قربهم من المسجد، و العلّة في ذلك بمقتضى فاء التفريع هو شركهم فنضمّ هذا إلى الإجماع القائم على عدم جواز إدخال النجس في المسجد و ننتج منهما انّ المشرك نجس بالمعنى المصطلح حيث انّه هو الذي منع عن إدخاله في المسجد.

ان قلت: انّ كلمة (نجس) مصدر و لا يمكن حمل المصدر على الذات و لا يصحّ وصف الجثّة بالمصدر فحينئذ لا بدّ من ان يقدّر معه (ذو) تصحيحا للحمل و فرارا عن الاشكال فالتقدير انّما المشركون ذو نجس و قد صرّح الزمخشري بذلك قائلا: نجس مصدر. و معناه ذوو نجس لانّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس و لأنهم لا يتطهّرون إلخ «1» و هذا يساعد النجاسة العرضيّة و يناسبها و من المعلوم انّهم لا يجتنبون عن النجاسات كالخمر و الخنزير و غير ذلك و اين هذا من إثبات نجاستهم بذواتهم و أعيانهم الّتي هي المدّعى؟

نقول: انّ بلاغة الكلام و لطافة التعبير في المقام تقتضي كونه مصدرا محمولا على الذات من غير تقدير و لا تأويل، نظرا إلى المبالغة المطلوبة، فهم

______________________________

(1). الكشّاف ج 2 ص 146

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 26

متجسّمون بالنّجاسة كما في كلّ مورد أريد المبالغة من المصدر المحمول على الذّات نظير زيد عدل، فلو قدّر (ذو) في تركيب زيد عدل مثلا، فهناك لا تأكيد و لا مبالغة أصلا و هو خلاف المقصود و

نقض للغرض المسوق له الكلام، و على الجملة فعلى تقدير كون النجس مصدرا فهو دالّ على المقصود جدّا بلا حاجة الى تأويل أو تقدير شي ء أصلا هذا.

مضافا الى إمكان كون النجس صفة مشبّهة [1] و على هذا فهي كسائر الصفات تحمل على الذوات بلا حاجة الى تقدير أو اعمال نكتة، و لا مجال للإشكال المذكور آنفا.

نعم يرد اشكال آخر و هو انّه كيف أخبر عن الجمع بالمفرد؟ فالموضوع اى المشركون جمع، و المحمول اعنى لفظ نجس مفرد، و لا يصحّ حمل المفرد على الجمع.

و يدفع بإرادة الجنس من النجس و الجنس يساعد معنى الجمع فهو و ان كان مفردا بحسب اللّفظ لكنّه جمع بحسب المعنى [2] و الإنصاف انّه لا حاجة أصلا إلى التمسّك بتلك الوجوه فانّ المقام شبيه قولهم: الكلب نجس و الخنزير نجس، و هو من أصرح التعبيرات عن النجاسة يعنى انّه من الأعيان النجسة و عليه فالمشركون ذوات نجسة و أعيان كذلك.

و قد يقال: انّ حكم القرآن الشريف بنجاستهم و عدم جواز دخولهم

______________________________

[1]. أقول: فإنّ فعل على وزن حسن من أوزانها قال في القاموس: النجس بالفتح و بالكسر و بالتحريك و ككتف و عضد ضدّ الطاهر. انتهى

[2]. قال علم التحقيق و التّقى الشيخ المرتضى في طهارته: النجس بفتح الجيم امّا مصدر. و امّا صفة مرادفة للنجس بالكسر. و يكون افراد الخبر مع كونه وصفا على تأويل انّهم نوع أو صنف نجس انتهى أقول: و يمكن ان يكون من قبيل الوصف الذي يستوي فيه الافراد و الجمع و الذكورة و الأنوثة كما نقل ذلك في اللغة أيضا فراجع و يستفاد من عبارة المجمع انّه يحمل عليه مع كونه وصفا باعتبار أصله الذي

هو المصدر.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 27

المسجد كان لأجل جنابتهم و عدم اغتسالهم منها، فانّ الجنب ممنوع عن الدخول فيه. [1]

و فيه: أوّلا: انّ هذا لا تساعده نسبة النجاسة إليهم الظاهرة في كونهم كذلك بالذات.

و ثانيا: لو كان المراد عدم دخولهم المسجد للجنابة فهذا غير مختصّ بالكفّار.

و ثالثا: انّه ربما يفرض كافر لا يكون جنبا كمن كان قد بلغ بالإنبات أو السنّ، حدّ التكليف جديدا و لم يمض من بلوغه كثير زمان و تأخر احتلامه مع انّه في هذه الفترة أيضا لا يجوز له دخول المسجد و لم يصدر منه لا قبل التكليف و لا بعده ما يوجب الجنابة وضعا.

و على هذا فالآية الكريمة تدلّ بظاهرها على انّهم أعيان نجسة [2] و ذوات قذرة شرعيّة بلا فرق بين افرادهم بحيث لو فرض مورد على خلاف ذلك فهو استثناء من الحكم الكلّي العامّ، و لو كان المراد من النجس هو القذارة أو الخباثة

______________________________

[1]. ممّن قال بذلك و جنح اليه هو قتادة فإنّه على ما حكاه الطبرسيّ قال: سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون و لا يغتسلون و يحدثون و لا يتوضّؤن فمنعوا من دخوله المسجد لانّ الجنب لا يجوز له دخول المسجد.

[1]. أقول: لا يقال: انّ المراد من النجس النجاسة المعنويّة الموجبة للمنع عن دخول المسجد الحرام مثل القذارة المعنويّة الحاصلة من الجنابة أو الحيض المانعة من الدخول فيه فالنجاسة هنا هي القذارة القائمة بالنفس اعنى الكفر و هي كناية عن خبث اعتقادهم فانّ الكفر قذارة باطنيّة و نجاسة معنويّة و دخول الكافر في المسجد موجب لهتك حرمته.

لأنّا نقول: ظاهر الآية نجاسة البدن اعنى الهيكل الخاص لا نجاسة روحه و نفسه و صرفها إلى المنقصة

في النفس و القذارة الباطنة تأويل لا دليل عليه قال ابن زهرة في الغنية: و قول المخالف:

المراد بذلك نجاسة الحكم، غير معتمد لأنّ إطلاق لفظ النجاسة في الشريعة تقتضي كظاهره نجاسة العين حقيقة و حمله على الحكم مجاز و اللّفظ بالحقيقة أولى من المجاز و لأنّا نحمل اللّفظ على الأمرين جميعا لانّه لا تنافي بينهما.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 28

لكان معنى الآية انّ المشركين خبيثة قذرة و على ذلك كان يحتاج الحكم بالنجاسة الشرعية في الكفّار حتّى المشركين منهم الى دليل خاص غير هذا العموم و هذا خلاف الظاهر جدّا فإنّهم كانوا يحكمون بنجاسة الكفّار بمجرّد هذا الآية الكريمة و لأجل هذا العموم المذكور على لسان المولى سبحانه و تعالى، فانظر الى كلام الطبرسي في مجمع البيان، قال:

و اختلف في نجاسة الكافر فقال قوم من الفقهاء انّ الكافر نجس العين، و ظاهر الآية يدلّ على ذلك و روى عن عمر بن عبد العزيز انّه كتب: امنعوا اليهود و النصارى من دخول مساجد المسلمين و اتّبع نهيه قول اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ الآية و عن الحسن قال: لا تصافحوا المشركين فمن صافحهم فليتوضّأ انتهى.

و المراد من التوضّؤ هو غسل اليد و لا بدّ من ان يراد منه لزوم الغسل إذا تصافحا مع نداوة في يد أحدهما فإذا صافح المسلم المشرك «الكافر» مع رطوبة سارية فلا بدّ من غسل اليد لتنجّسها بالمساس و الملاقاة. الى غير ذلك ممّا ورد في الاخبار أو التواريخ، الظاهر في انّ استنادهم في الأحكام المقرّرة كان الى الآية الكريمة.

و امّا قوله تعالى فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ. فهذا في الحقيقة نهى متوجّه إلى المؤمنين لا إليهم، لعدم ايمانهم باللّه كي

ينتهوا عمّا نهوا عنه، و الّا فالاجدر بهم أن يؤمنوا باللّه و يتركوا الأصنام و الأوثان، و يخرجوا من عبادتهم الى عبادة اللّه سبحانه، و على هذا فمعنى الآية الكريمة انّه يجب على المؤمنين ان يمنعوا المشركين عن دخولهم المسجد الحرام. [1]

______________________________

[1]. أقول: و لا ينافي هذا ما ذكروه من انّ الكفّار مكلّفون بالفروع كما انّهم مكلّفون بالأصول، و ذلك لانّ ما افاده دام ظله متعلّق بإجراء الحكم و تحقيقه و إنفاذه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 29

و هنا إشكال ينبغي التعرّض له و هو انّه سلّمنا دلالة الآية على نجاسة الكفّار و عدم جواز دخولهم المسجد لكن كيف يمكن التوفيق بين هذا و بين ما ثبت و تحقّق من انّ عدم جواز إدخال النجس في المسجد مشروط بكونه ذا رطوبة متعدّية و امّا النجاسة الجافّة غير المتعدّية فادخالها فيه غير ممنوع.

و الجواب عنه أوّلا: انّه يمكن ان يكون هذا تعبّدا محضا لا مستندا الى نجاستهم المقطوع بها، و ان كان الحكم ذا اسرار كثيرة و حكم بالغة عظيمة، لكنّها خافية علينا مستترة عن أفهامنا منا الضئيلة، و عقولنا الضعيفة، و لا يعلمها الّا اللّه تعالى.

و على الجملة فمن الممكن حرمة إدخال كلّ نجس في المسجد إذا كان رطبا ساريا الّا الكافر فإنّه يجب منعه عنه مطلقا تعبّدا في خصوص المورد و في هذا النجس الخاصّ.

و ثانيا: انّه يمكن ان يكون هذا لأجل دفع التوهين عن المسجد، الذي هو أشرف مكان معدّ لتعبّد المتعبّدين، و صلاة المصلّين، يتقرّب العباد فيه الى خالقهم، و يذكرون فيه اسم اللّه تعالى آناء الليل و أطراف النهار، و تعظيمه و تكريمه فرض على جميع المسلمين، و دخول الكافر

فيه مناف لتعظيمه و إجلاله.

و ثالثا: انّه يمكن ان يكون وجه هذا التشديد في أمر الكفّار هو كونهم غير مأمونين عليه من التلويث فلربّما ينجّسون المسجد أو يتنجّس المسجد بهم قهرا بإلقاء النّخامة و النخاعة، و تأثّره و تنجّسه برطوباتهم لعدم مبالاتهم بالطهارة و النجاسة، و عدم اعتنائهم بشأن المسجد الرفيع و احترامه المخصوص. [1]

______________________________

[2]. قال الشهيد في الذكرى ص 157: لا يجوز لأحد من المشركين دخول المساجد على الإطلاق و لا عبرة بإذن مسلم له لأنّ المانع نجاسته للآية، فإن قلت: لا تلويث هنا قلت: معرض له غالبا و جاز اختصاص هذا التغليظ بالكافر. انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 30

نكتة شريفة

ثمّ انّ في الآية الشريفة نكتة لطيفة ينبغي التعرّض لها فنقول: انّه يستظهر منها بدوا بحسب الفقاهة انّ السّر الوحيد و العلّة التامّة في منع المشركين عن دخول المسجد هو كونهم نجسا فيصطاد و يستفاد منها- بمقتضى كون العلّة معمّمة- عموم و هو عدم جواز قرب اىّ نجس من النجاسات من المسجد مطلقا و لكن الظاهر من جملة (فَلٰا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرٰامَ) بعد التأمّل فيها انّه حكم مختصّ بالمشركين و انّ نجاستهم ليست علّة حتّى يعمّ الحكم جميع النجاسات بل هي حكمة لذلك.

و ذلك لانّ النهي فيها عن قربهم من مسجد الحرام لا عن دخولهم فيه مع انّ مجرّد قرب النجاسة لا يوجب السراية و ليس هو سببا للنجاسة بل هي موقوفة على المماسّة و الملاقاة و تأثّر الملاقي بها فهذا التعبير حاك عن كمال اهتمام الشارع بعدم حصول اىّ صلة و ترابط بين المسلمين و الكفار و عزلهم عن اطار عيشهم و عشرتهم و على هذا فلا عموم أصلا.

و بعبارة أخرى

لمّا كان الناس يستبعدون عدم جواز قرب المشركين من المسجد و يكبر عليهم هذا الحكم لا سيّما بلحاظ اناطة منافعهم بالتّبادل التجارىّ معهم، و اختلافهم، و تردّدهم إلى مكّة المعظّمة، فلذا بيّن حكمة هذا الحكم اعنى لزوم طرد الكفّار فقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ. و هذه الحكمة تكشف عن عظمة تعاليم النّبي الكريم و سموّ دعوته، و تقوّى روح المؤمن و تشجّعه و تجعله عزيزا شديدا على الكفّار، غير مكترث بهم في جنب اللّه، لا يخاف في اللّه لومة لائم، و تعلو في ظلّها همتّه، فلا يودّهم و لا يتولّاهم و لا

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 31

يتّخذهم أولياء و بطانة و يكون صلب العود، قوىّ العزم، في مواجهة الكفّار، و لا يكون الدين عنده العوبة يعبث به فقد أراد اللّه تعالى ان يكون المسلم متصلّبا خشنا في ذات اللّه، و ان يجعل من الأمة الإسلاميّة رجالا شجعانا إبطالا يكون الكافر في أعينهم أصغر من ذبابة، و ان يكونوا بحيث لو اجمع العالم كلّه على الكفر و العناد و اتّفق اهله على الضلال و الإلحاد و لم يكن من ينتحل الإسلام إلّا واحدا فهذا المسلم الواحد يكون معتزّا بالإسلام معتدّا بشرفه لا يخاف و لا يستوحش بل يقوم وحده حذاء العالم المجمع على الكفر و يقول مخاطبا لهم لا تمسّونى و لا تقربوا منّى فإنّكم بأجمعكم- أيّتها الأمّة المجتمعة على الكفر و الضلال- نجس و آنا وحدي- في ظلال التوحيد و الإسلام- طاهر و فيه من رقىّ الإسلام و كيان المسلم و إعلاء كلمة الدين و تحرير الإنسان من الخضوع لغير اللّه و نفخ روح الرجولة و الجلادة فيه ما لا يخفى.

و الحاصل انّ

اللّه تعالى يريد بذلك ان يلهم الأمّة الإسلاميّة الحماسة و الاعتماد على النفس و التّحفظ على استقلالهم و سؤددهم.

ثمّ انّه لمّا كان بين المسلمين و المشركين ارتباط تجاري و كان اقتصادهم بزعمهم منوطا بالمعاشرة معهم و المخالطة و الألفة بهم فكانوا يجدون في أنفسهم ضيقا من طرد المشركين على اثر حكم اللّه تعالى المزبور، و كان يقرء في صفحة وجوههم و جبينهم خطوط خوف الإملاق و النكبات الماليّة و الخسارات التجاريّة، فلذا وجّه حكمه السابق و عقّبه بقوله وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شٰاءَ يعنى و ان خفتم في إجراء هذا الحكم و إنفاذه الفقر و الحاجة و انقطاع المتاجر و تعطّل الأسواق و ذهاب التجارات بسبب منع المشركين عن دخولهم المسجد، فإنّه لا موجب لهذا الخوف، فلا تخافوا فسوف يغنيكم اللّه من فضله، و قد وفي اللّه بوعده هذا، و أنجز و أصلح أمورهم و

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 32

أغناهم من فضله العميم و لطفه الجسيم، و من أوفى بعهده من اللّه؟

ما هو المراد من المسجد الحرام؟

ثمّ انّ هنا بحثا في تعيين المراد من المسجد الحرام المذكور في الآية، فهل هو مجموع مساحة الحرم أو خصوص المسجد الشريف المحيط بالكعبة زادها اللّه شرفا و إجلالا؟

أقول: المناسب لقوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً. و المساعد لخوف الفقر و الحاجة، و ضنك المعيشة، و العوز المالي، هو الأوّل، فإنّه لا مجال لخوف المؤمنين من العسرة و العيلة إذا كان المشركون ممنوعين عن دخول المسجد فقط مع جواز دخولهم في مكّة و عدم المانع لهم عن ذلك، و انّما يصحّ هذا الخوف و له مورد عرفا إذا كانوا ممنوعين عن دخول مكّة مطلقا،

حيث انّه بذلك تنقطع التجارات و يسدّ أبواب المعاملات. و يؤيّد ذلك ما ورد في الروايات من انّه فتحت للمؤمنين أبواب الأرزاق بعد منعهم المشركين عن دخول مكّة. «1»

هذا كلّه مضافا الى ما ورد من انّ الحرم كلّه مسجد. [1]

فتحصّل ممّا ذكرناه حول الآية الكريمة انّها تدلّ بالوضوح على المطلوب أي نجاسة مطلق الكفار حتّى أهل الكتاب و من البعيد ان لا يكون تسالم الأصحاب و كذا عدّة من أهل السنّة على نجاسة غير أهل الكتاب من الكفّار، و

______________________________

[1]. ففي الكشّاف ج 2 ص 147: و عن عطاء: ان المراد بالمسجد الحرام الحرم، و انّ على المسلمين ان لا يمكّنوهم من دخوله إلخ و في مجمع البيان ج 3 ص 20 عند شرح المسجد الحرام: قيل:

المراد به منعهم عن دخول الحرم، عن عطاء قال: و الحرم كله مسجد و قبلة.

______________________________

(1). راجع تفسير الصافي ج 1 ص 693

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 33

هكذا حكم الأصحاب- إلّا شاذّ منهم- بنجاسة أهل الكتاب ايضا مستندا الى الكتاب و مستفادا من الآية الشريفة.

و لذا ترى انّ المحقّق قدّس سرّه يقول في باب الأسئار من المعتبر ما حاصله انّ الكفّار قسمان: أحدهما أهل الكتاب ثانيهما غيره، مثل النواصب و الخوارج و الغلاة و المشركين و غيرهم. [1] و ادّعى عدم الخلاف في نجاسة الثاني، و لم يعترض عليه أحد، مع انّ مخالفة الخوارج لأهل الحقّ ليست إلّا في الولاية و الخلافة، و هم لا يدّعون في ناحية المبدء أو المعاد أو النّبوّة شيئا جديدا غير معهود من المسلمين، و لا أظنّ انّ أحدا قال بطهارتهم بل و لا مال إليها فهل ترى ذلك إلّا لأجل انّ العلماء

استفادوا و استظهروا من الآية نجاسة الكفّار مطلقا نجاسة عينيّة ذاتيّة و اعتمدوا في افتائهم هذا على الآية الشريفة.

و امّا مخالفة شاذ منهم في نجاسة أهل الكتاب فهي لأجل أمور و استدلالات نذكرها فيما سيأتي و نجيب عنها إنشاء اللّه تعالى و قد ذكرنا أنّهم أيضا مشركون حقيقة و لا أقلّ من كونهم كذلك تنزيلا و بعبارة اخرى انّ منشأ حكم العلماء بنجاستهم بل و منشأ كلمات الأئمة الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين و حكمهم بها هو القرآن الكريم، و هذه الآية الكريمة التي تنادي بنجاسة المشركين بأعيانهم، كما انّ أقدم المفسّرين ابن عبّاس يقول انّ نجاستهم كنجاسة الكلب و الخنزير [2] و اعتقد بذلك الشيعة.

______________________________

[1]. المعتبر الطبع الجديد ج 1 ص 95 و عبارته كذا: و امّا الكفّار فقسمان يهود و نصارى و من عداهما امّا القسم الثاني فالأصحاب متّفقون على نجاستهم.

[2]. و في التواريخ انّه قد مرّ أبو موسى الأشعري على عمر بحساب فدفعه الى عمر فأعجبه فقال لأبي موسى: اين كاتبك يقرء هذا الكتاب على الناس؟ فقال: انّه لا يدخل المسجد فقال: لم أجنب هو؟

قال: انّه نصراني فانتهزه و قال: لا تدنهم و قد أقصاهم اللّه و لا تكرمهم و قد أهانهم اللّه و لا تأمنهم و قد خوّفهم اللّه. أوثق عرى الإيمان ص 92.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 34

نعم خالف جمع منهم مستدلّين بما رووه بإسنادهم من استعمال النّبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أواني المشركين و الكفّار و أجاب عنه القائلون بالنجاسة منهم بأنّ هذا كان قبل نزول الآية الكريمة الناطقة بنجاستهم، و الحاصل انّه لا غبار على الاستدلال بالآية، و إنكار ذلك ليس في مورده.

حول معارضة آية الطعام

نعم

يوجد هنا اشكال و حاصله: سلّمنا دلالة الآية على نجاسة الكفار حتى أهل الكتاب منهم، الّا انّها معارضة بآية الطعام في مورد أهل الكتاب و هي قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ «1» فانّ لازم حلّ طعام أهل الكتاب للمسلمين هو طهارة أبدانهم، فإذا كان طعامهم الذي صنعوه و عالجوه بأيديهم حلالا للمسلمين فكيف يحكم بنجاستهم؟ و على الجملة فمفاد الآية الأولى نجاسة مطلق الكفّار حتّى اليهود و النصارى، و مفاد هذه الآية طهارة خصوص أهل الكتاب فتخصّص الاولى بهذه لأنّها أعمّ و هذه أخصّ.

و الجواب عن ذلك انّ آية الطعام ليست في هذا المقام، و ليس المراد منها ذلك، بل لمّا أمر اللّه تعالى المسلمين بالاجتناب عن الكفار و منع عن تردّدهم إلى مكّة، و قربهم من المسجد الحرام، و كان هذا معرضا لتوهّم المؤمنين وجوب الانقطاع عن الكفّار بكلّ وجه، و حرمة البيع منهم، و الاشتراء عنهم، و مظنّة لان يتخيّلوا عدم جواز المعاشرة معهم، و حظر طعام كلّ من الطائفتين على الأخرى على حسب ما تقرّره آية النجاسة فلذا نصّ القرآن الكريم- دفعا

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 7

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 35

لهذا التوهّم و إبطالا لهذا الخيال- على انّ طعام أهل الكتاب حلّ لكم، و طعامكم ايّها المسلمون حلّ لهم، فلا تعطّل الأسواق لنجاسة الكفّار و لا تسدّ أبواب المعاملات و المبادلات لذلك على حسب ما تشير إليه آية الطعام.

إذا تلونا عليك هذا فاعلم انّه قد فسّر الطعام في كلام بعض اللّغويّين بالبرّ، اى الحنطة، و في كلام بعض آخر منهم بالحبوب، فقال الفيّومي في مصباحه: إذا أطلق

أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البرّ خاصّة انتهى.

و عن المغرب: انّ الطعام اسم لما يؤكل و قد غلب على البرّ و حكى عن ابن الأثير عن الخليل انّ الغالب في كلام العرب انّه البرّ خاصّة.

و قال الطريحي في مجمع البحرين: الطعام ما يؤكل و ربّما خصّ بالبرّ. الى غير ذلك ما كلمات اللّغويّين و قد وردت روايات ايضا تفسّر الطعام المذكور في الآية بالبرّ أو الحبوب مطلقا و فسرّها المفسّرون ايضا كذلك، و معلوم انّ البرّ و الحبوب يابسة لا تتنجّس بملاقاة أبدانهم، فأجاز الشارع بيع الحبوب لهم و اشترائه منهم لا لخصوصية فيها، بل لكونها يابسة لم تتنجّس، و يترتّب عليه بالطبع انّه لو كان لهم شي ء غير نجس ممّا يؤكل فهو ايضا يجوز شرائه منهم و اكله، و على ذلك فلا دلالة فيها على طهارة أهل الكتاب أصلا.

بل يمكن ان يقال- بلحاظ ما ورد في التفاسير مؤيّدا بقول أهل اللّغة و مستندا الى روايات أهل البيت عليهم السلام من كون الطعام بمعنى البرّ أو الحبوب- انّ في الآية اشعارا بنجاسة الكفّار من أهل الكتاب أو الدلالة على ذلك.

ثمّ لو فرض عموم الطعام و شموله لكلّ ما يطعم، فلا دلالة أيضا في آية الطعام على مراد الخصم، و لا معارضة بينها و بين الآية الأولى أصلا، لأنّ إطلاق هذه الآية الكريمة حيثىّ، فهي في مقام بيان حكم طعام أهل الكتاب بعنوان كونه طعاما لهم و بلحاظ هذه الحيثيّة فقط و لا إطلاق لها حتّى يكون طعامهم حلا

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 36

للمؤمنين كيفما كان و في أيّ شرط من الشرائط و حال من الحالات، و لا يشمل العناوين المتعدّدة و

الحيثيّات المتكثّرة فإذا قيل: لحم الغنم حلال. فهل ترى من نفسك انّ معناه هو حليّة لحم الغنم مطلقا و ان كان مغصوبا أو مأخوذا بالسرقة و بغير رضا صاحبه؟ و كذا لو كان جلّالا و غير مذكّى؟ أو تقول انّ معناه انّ لحم الغنم في نفسه و في حدّ ذاته مباح و هذا لا ينافي ان يكون حراما من الجهات الطارئة و بالعناوين العارضة.

و لهذا لا يرى العرف تعارضا أصلا بين قولنا لحم الغنم حلال، و بين قولنا اللحم المغصوب حرام، و ليس الّا لعدم إطلاق للاوّل يشمل الحيثّيات و التطورات الحادثة.

فطعام أهل الكتاب في اطار كونه طعاما لهم حلّ للمؤمنين و ليس محرّما من المحرّمات، أو نجسا من النجاسات، نعم يمكن ان يحرم بالطوارئ و العوارض كما إذا لاقاه صاحبه مع الرطوبة و كما إذا لاقى هذا الطعام نجسا آخر معها.

هذا بالنسبة إلى حلّ طعام أهل الكتاب للمؤمنين المستفاد من قوله تعالى:

وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ.

و امّا بالنسبة إلى حلّ طعام المؤمنين لهم المستفاد من قوله تعالى وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا اشكال فيه أصلا مضافا الى انّه ايضا حيثىّ.

و الحاصل: انّه ليس في هذه الآية أقلّ مرتبة من الدلالة على الطهارة فضلا عن ظهور أو صراحة فيها و ان أغمضنا النظر عن تفسير الطعام بالبرّ و الحبوب، و قلنا بشموله لهما و لغيرهما ممّا يساغ و يؤكل، و لا مخالفة و لا تهافت بين هذه الآية و الآية المبحوث عنها الدّالة على النجاسة، و سيوافيك الكلام في هذا الموضوع عند الجواب عن استدلال القائلين بالطهارة إنشاء اللّه تعالى.

فالإنصاف انّ الآية الكريمة تدلّ على نجاسة الكفار مطلقا بلا اى نقص

نتائج الأفكار

في نجاسة الكفار، ص: 37

في دلالتها أو معارض يعارضها و بلا فرق بين أقسام الكفار بل ليس هنا إيضاح أبلغ من هذا الإيضاح.

الاستدلال بآية الرجس

و من الآيات الّتي قد يستدلّ بها لإثبات نجاسة الكفّار قوله تعالى:

كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ. [1]

فنقول في تقريب الاستدلال بها: انّ مفادها: انّ كلّ من لا يؤمن باللّه- سواء كان مشركا اصطلاحيا أو كان منكرا للّه تعالى أو غيرهما من أصناف الكفّار فقد كتب اللّه و جعل عليه الرّجس. و الرجس هو النجاسة. [2]

و لكنّ الإنصاف انّ هذه الآية ليست كالسابقة في- نهوضها لإثبات ما

______________________________

[1]. سورة الانعام الآية 125. أقول: و قد استدلّ بها العلّامة أعلى اللّه مقامه في التذكرة ج 1 ص 8 و في نهاية الأحكام ج 1 ص 273 و الشهيد في الدروس ص 13 و في الذكرى ص 13 على نجاسة الكافر مطلقا و المحقّق في المعتبر ص 24 على نجاسة من عدا اليهود و النصارى من الكفار، و ابن إدريس على نجاسة كلّ من لم يعتقد الحقّ الّا المستضعف، على ما حكاه العلامّة.

[2]. قال السيّد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: معنى الرجز و الرّجس و النجس واحد بدلالة قوله تعالى وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ انتهى.

و قال الشيخ في التهذيب الطبع الجديد ج 1 ص 278: انّ الرجس هو النجس بلا خلاف.

و في مجمع البحرين بعد نقل هذا: و ظاهره انّه لا خلاف بين علمائنا في أنّه في الآية بمعنى النجس انتهى.

و قال في المختلف ص 58 في ضمن البحث عن نجاسة الخمر و التعرض لآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ إلخ-: ان الرجس

هو النجس.

و قال الشيخ البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين ص 102 في ذيل آية الخمر: و الرجس و ان كان يطلق على غير النجس أيضا الّا انّ الشيخ في التهذيب نقل الإجماع على انّه هنا بمعنى النجس.

و حينئذ فامّا ان يكون خبر بقية المتعاطفات في الآية محذوفا أو يكون رجس هو الخبر عن الكلام من قبيل عموم المشترك أو عموم المجاز و مثله غير عزيز في الكلام انتهى كلامه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 38

نحن بصدده أي نجاسة الكفّار- فانّ كلمة (نجس) في الآية الأولى كانت ظاهرة في النجاسة الشرعيّة قطعا، بخلاف لفظ (الرّجس) فإنّه و ان أمكن ان يكون المراد منه النجس، الّا انّه لا يكون ظاهرا فيه [1] كما ترى انّه أريد به غير النجاسة المصطلحة في قول اللّه تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ. «1» فانّ الرجس هنا بقرينة المتعاطفات هو الخبيث و العمل القبيح.

و على الجملة فإن ثبت انّ المراد من الرجس في الآية المبحوث عنها هي النجاسة الشرعية فهي أيضا من أدلّة المطلب و الّا فهي أجنبيّة عن المقام، و لا يصحّ الاستدلال بها في إثبات المطلوب.

______________________________

[1]. أقول: خصوصا بلحاظ صدر الآية و هو قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلٰامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمٰا يَصَّعَّدُ فِي السَّمٰاءِ كَذٰلِكَ.

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 92.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 39

الأخبار الدّالّة على نجاسة الكفّار

اشارة

و قد استدلّ القائلون بالنجاسة أيضا بالأخبار المرويّة عن الأئمة عليهم السلام و نحن نورد منها ما يلي:

منها: موثّقة سعيد الأعرج فعلى نقل التهذيب و الكافي قال: سئلت أبا عبد اللّه عليه السلام عن سؤر

اليهودي و النصراني فقال: لا. و على نقل الفقيه:

سئل الصادق (ع) سعيد الأعرج عن سؤر اليهودي و النصراني أ يؤكل أو يشرب؟

فقال لا. «1»

وجه الاستدلال انّ ظاهر السؤال فيها هو السؤال عن الأكل أو الشرب من حيث الطهارة و النجاسة، و قد علمت انّ الامام عليه السلام نهاه عن أكل سؤره و

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 21، و في مرآت العقول ج 13 ص 40: حسن، و في المستمسك ج 1 ص 369: مصحّح سعيد الأعرج.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 40

شربه، و ظاهر النهي الحرمة.

و القول بأنّ نهيه عليه السلام و حكمه بالتحريم تعبّد محض و لا يستلزم نجاسة سؤرهما فكأنّه قد حرّم الأكل و الشرب من سورهما مع طهارته توهّم لانّ الظاهر انّ تحريمه كان للنجاسة و ليس هذا الظهور في مورد الإنكار.

و منها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل صافح مجوسيّا قال: يغسل يده و لا يتوضأ. هكذا نقل في التهذيب، و لكن في الكافي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام في رجل صافح مجوسيا. «1»

وجه الاستدلال بها انّ الامام عليه السلام قال في شأن من صافح مجوسيّا:

يغسل يده. و هذه الجملة خبر يفيد الإنشاء، بل هو آكد منه حيث انّ المتكلم إذا أخبر في مقام الإنشاء فهو يرى الأمر واقعا محقّقا مفروغا عنه، و لا يفرض و لا يحتمل صورة عدمه بل يرى تركه غير محقّق، و على هذا فقد أوجب عليه السلام غسل اليد على هذا المصافح لأجل مصافحته المجوسي و من العيان المغني عن البيان انّ وجوب الغسل دليل النجاسة و كاشف عنها.

نعم يمكن

المناقشة فيها بأنّ ملاقاة النجس مطلقا لا تكون سببا للنجاسة و وجوب الغسل، بل هي مشروطة بالرطوبة المتعدية بحيث يتأثّر الملاقي بالنجاسة، و معلوم انّ مجرّد مصافحة المجوسي لا يوجب سراية النجاسة من يده الى يد المسلم، و انّما تسرى إذا كانت يد أحدهما أعني يد المجوسي أو يد المسلم المصافح رطبة و الحال انّ مقتضى هذه الرواية وجوب غسل يده مطلقا بلا تقييد بما إذا كانت المصافحة و تلاقى اليدين مع رطوبة سارية في إحديهما.

و يمكن الجواب عنها و التخلّص منها بوجوه:

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 43، و الطبع الجديد ج 2 ص 113.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 41

الأوّل: انّ الغالب في البلاد الحارّة و- منها الحجاز التي هي أرض النبوّة و مهبط الوحي و محلّ صدور تلك الرواية الشريفة- هو عدم خلّو يد واحد من المصافحين عن الرطوبة السارية، كما انّ هذا أمر مجرّب محسوس فيها بل و في غيرها من البلدان ايضا عند اشتداد الحرّ، فلذا اكتفى الامام عليه السلام بالغلبة التي هي قرينة واضحة مغنية عن ذكر الرطوبة.

و الثاني: انّ مراد الامام عليه السلام هو المصافحة المقيّدة برطوبة في يد أحدهما، الّا انّ القيد مذكور في الاخبار الأخر، أو هو معلوم غير محتاج الى ذكره، و على الجملة فلا يلزم ذكر المقيّد عند إلقاء المطلق و ذكره مطلقا و لا يستلزم ترك ذكره الإغراء بالجهل كما انّه لا بأس بذكر المطلق بلا قيد مع ارادة المقيّد اعتمادا على كون القيد معلوما.

الا ترى انّ المولى إذا طلب من عبده الماء و امره بإتيانه بلا تقييد بكونه باردا مع كون الهواء حارّا جدّا فانّ العبد يعلم بمقتضى

الحال انّ المولى لم يطلب و لم يرد منه الّا الماء البارد أو المثلّج، و ان كان امره مطلقا، فإنّه قد اعتمد على علم العبد بذلك و لم ير حاجة الى ذكره.

و هنا وجه ثالث في الجواب عن المناقشة المذكورة، و دفعها عن الرواية، الّا انّه على ذلك لا دلالة لها على النجاسة، و هو ان يقال: انّه ليس ظاهر الأمر- الذي هو الوجوب- مرادا هنا بل المراد منه الاستحباب لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر، و الظاهر حملها على أحد الاحتمالين الأوّلين.

بقي الكلام هنا في قوله عليه السلام: و لا يتوضّأ. فنقول: المراد منه انّ مصافحة المجوسي مع الرطوبة في اليد و إن كانت موجبة لتنجّس يد المسلم الذي صافحه الّا انّها لا توجب الحدث كي يحتاج في رفعه الى الوضوء.

و ربما يشعر هذا أو يظهر منه انّ المؤمنين و أصحاب الأئمة عليهم السلام

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 42

كانوا يتوهّمون انّ مصافحة الكفار توجب الحدث لشدّة خباثتهم عندهم و تبرّيهم عنهم و عن طريقتهم فلذا صرّح الامام بعدم إيجابها الوضوء و لعلّه كانت بين الامام و صاحبه خصوصيّة أورثت و اقتضت ذلك من عدم المخالطة معهم و أمرهم عليهم السلام إيّاهم بقطع المراودة عنهم- على خلاف العامّة القائلين بطهارة أهل الكتاب و المعاشرين لهم- فنشأ من الخصوصيّة المذكورة التوهّم المزبور فردّهم عليه السلام عن توهّمهم، و أخبرهم بأنّه لا يتوضّأ المسلم المصافح معهم.

و منها رواية أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في مصافحة المسلم اليهوديّ و النصرانيّ قال: من وراء الثياب فان صافحك بيده فاغسل يدك. «1»

تقريب الاستدلال بها انّه عليه السلام أمر بغسل اليد لمصافحة اليهودي و النصرانيّ، و ليس ذلك

الّا لنجاستهما و تنجّس يد المصافح بمصافحتهما.

و يمكن ان يورد عليها ما أورد على الرواية السابقة، و الجواب هو الجواب.

نعم هنا اشكال يختصّ بالمقام و هو انّه كيف لم يأمر الإمام عليه السلام بغسل الثياب الّتي صافحهما المسلم من ورائها و الحال انّه لو كانت يدهما تؤثّر النجاسة فلا فرق فيه بين يد المصافح و ثيابه؟

و يمكن الجواب عنه بوجوه:

أحدها: انّ الامام عليه السلام يريد ان لا تتنجّس يد المسلم و لا تتلوّث و لذا يرشده الى ما يحتفظ به على طهارة يده و هو المصافحة من وراء الثياب اى بقطعة من الثوب أو خرقة تكون حائلة بين يده و بين يد الكتابي و ان كان ذلك بان يأخذ المسلم شيئا من ثوب الكتابي نفسه و يصافحه من ورائه و بيده المغطّاة بثوبه لا بثوب نفسه كي لا يتنجّس، و على الجملة فلا يستفاد من قوله عليه السلام (من

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 42، و الطبع الجديد ج 2 ص 113

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 43

وراء الثياب) ان يأخذ الحائل من ثوب نفسه الملبوس بل اللازم هو الحيلولة بين يده و يد الكتابي حفظا ليده عن النجاسة.

ثانيها: سلّمنا شمول قوله عليه السلام، لثياب المسلم الملبوسة أيضا التي يصلّى فيها لكن من المعلوم، الفرق بين تنجّس اليد و الثوب فانّ تنجّس اليد يحصل بمجرّد رطوبة يسيرة و بلّة قليلة في يد أحدهما و لا يحتاج الى كثير مؤنة بخلاف تنجّس الثوب فإنّه يحتاج الى أكثر من هذا و لا يتحقّق إلّا برطوبة جليّة بيّنة و نداوة ظاهرة سارية كي يتأثر بها غاية الأمر انّه بعد المصافحة من ورائه يصير

الثوب مشكوك النجاسة فربّما تكون الرطوبة سارية في شي ء و لا تكون كذلك في غيره، و من المعلوم انّ مشكوك الطهارة و النجاسة محكوم بالطهارة، كما انّ الاستصحاب أيضا يقتضي الطهارة في المقام، حيث ان الثوب كان مسبوقا بها.

ثالثها: انّ قوله عليه السلام بعد ذلك (فاغسل يدك) قرينة ظاهرة على لزوم غسل الثوب ايضا لو صافحه من وراء الثوب إذا أراد الصلاة فيه لأنّ غاية ما يقال في الأوّل هو عدم البيان حيث انّه عليه السلام لم يقل: ان صافحت مع الثوب فلا بأس أصلا، حتّى يقال انّه صريح أو ظاهر في طهارة الثوب، و يلزم الاشكال، بل هو اللّابيانيّة المحضة و حينئذ فالجملة الثانية بيان صريح و لا يصحّ رفع اليد عن الدليل الصريح و لا البيان الظاهر لأجل عدم البيان بل اللّازم بمقتضى الصناعة هو الأخذ بالبيان و رفع الاشكال و الإجمال به في مورد عدم البيان، فإذا قال: فان صافحك بيده فاغسل يدك. يعلم منه انّه ان صافح من وراء الثياب- ثياب المسلم- يجب غسله و تطهيره إذا أراد ان يصلّى فيه و بعبارة أخرى يفهم منه انّ الثياب ايضا نجسة. [1]

______________________________

[1]. أقول: و هنا وجه رابع و هو انّ شأن الناس بالنسبة إلى أثوابهم و أبدانهم مختلف فترى ان لهم

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 44

و منها: عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمّة و المجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الّذي يطبخون و لا في آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر. [1]

تقريب الاستدلال بها انّ المقصود من طعامهم المطبوخ الذي نهى عن اكله على ما هو الظاهر، الطعام الرطب

الذي باشروه بأبدانهم حين صنعه و طبعه فقلّما يتفّق طبخ غذاء مع عدم مباشرة يد الطابخ له بخلاف غير المطبوخ أو الفواكه، فلو أخذ المسلم من بيت الكتابي تفّاحا أو بطّيخا مثلا و شقّه بسكّين طاهر فلا اشكال فيه من ناحية الطهارة لعدم مباشرة بدنه له و امّا ما طبخه الذّميّ فهل يكون المسلم على وثوق و اطمئنان من ذلك؟ لا بل الاطمئنان حاصل بملاقاته و نجاسته و كذا آنيتهم نجسة لأجل مباشرتهم لها.

و امّا ما ترى من تقييدها في الرواية بقوله: الّتي يشربون فيهما الخمر. فهذا لنكتة خاصّة راعاها الامام (ع) و هي انّ فقهاء العامّة كانوا يقولون بطهارتهم، و سواد الناس و عوامهم يقلّدونهم طبعا في ذلك كما في سائر الأمور فكانوا هم ايضا يقولون بطهارتهم. و كان ائمة أهل البيت بصدد تحذير الناس عن مخالطة الكفّار، و الحكم بنجاستهم و كانوا صلوات إله عليهم أجمعين يهتمّون بمعايش العباد و صلاح الأمّة و الاحتفاظ على نفوس الشيعة و الدماء الزاكية و حيث انّه لم يمكن لهم مخالفة العامّة بالصراحة فلذا يحتالون في ذلك، و كان ذكر قيد (الّتي

______________________________

الألبسة الصّيفيّة، و الشتوية، و السفريّة، و الحضرية، و ثياب التجمّل، و العمل، و العبادة، فربّما يتعرّى من ثيابه التي قد تنجّست و لا يلبسها بعد ذلك مطلقا و ربّما لا يصلّى في هذا الثوب ابدا بل هو ثوب خاص لحالة خاصة و ان لم تكن متنجّسة بخلاف اليد فإنّه عضو من أعضاء الإنسان متّصل به و لذا ذكر الامام وجوب الغسل في اليد دون الثياب.

[1]. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 1 أقول: و من العجب انّه استدل بها للقول

بطهارة أهل الكتاب ايضا كما سيأتي إنشاء اللّه تعالى

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 45

يشربون فيها الخمر) من هذا الباب، فهو نحو احتيال في مخالفة العامّة و نوع فرار من شرّهم و أذاهم، لانّ الشيعة كانوا يجتنبون عن مطلق أوانيهم، و على الجملة فإنّ الإمام عليه السلام يظهر انّ الاجتناب عنها لأجل أنّهم يشربون فيها الخمر لا لكونها أواني لهم و انّهم نجس. [1]

فانقدح بذلك انّ دلالة هذه الرواية على نجاستهم تامّة جدّا و ليس فيها اىّ نقصان و ذلك للملازمة بين وجوب الاجتناب المستفاد من النهى و بين النجاسة.

و منها: ما عن علىّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:

سألته عن فراش اليهوديّ و النصرانيّ ينام عليه؟ قال: لا بأس و لا يصلّى في ثيابهما، و قال: لا يأكل المسلم مع المجوسيّ في قصعة واحدة و لا يقعده على فراشه و لا مسجده و لا يصافحه قال: و سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للّبس لا يدرى لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: ان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه و ان اشتراه من نصرانيّ فلا يصلّى فيه حتّى يغسله. «1»

تقريب الاستدلال انّه عليه السلام جوّز النوم على فراشهم و منع عن الصلاة في ثيابهم، و مقتضى الإطلاق المنع عن ذلك سواء كانت لها نجاسة عرضيّة أولا، و من المعلوم انّ النهى عن إتيان الصلاة فيها ليس إلّا لغلبة المماسّة الحاصلة بينها و بين أبدانهم مع الرطوبة، و لو علم عدم المماسّة فلا بأس بالصلاة فيه، الّا انّ الغالب هو الأوّل، و الإلحاق منزّل على الغالب، و هذه الغلبة كانت بحيث أوجبت الملازمة بين كون الثوب ثوبا لليهود و

النصارى و منتحلا إليهم و بين كونه نجسا مع انّ ثوبهما ليس نظير السؤر في عدم انفكاكه عن مماسّة بدنه

______________________________

[1]. يمكن ان يقال: انّ حكمه عليه السلام في الجملة الاولى و الثانية خلاف التقيّة و هذا يبعّد حمل الثالثة عليها فتأمّل.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 10

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 46

مع الرطوبة.

ترى انّ الشارع قد وسّع في باب الطهارة، بحيث لم يعتبر الشك في النجاسة بل و لا الظنّ بها و قال: كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر [1] و مع تلك التوسعة و النظر الوسيع في أمر الطهارة و النجاسة فقد نهى عن الصلاة في الثوب المزبور، و امّا الثوب المتعلّق بالمسلم الذي يستعيره الذمّي ثمّ يردّه اليه فيجوز الصلاة فيه من دون غسله، لانّه ليس مثل ثياب الذمّي نفسه في مظنّة النجاسة.

ثمّ انّه عليه السلام نهى بعد ذلك عن أكل المسلم مع المجوسيّ في قصعة واحدة أي في إناء واحد، و وجه ذلك انّ الأكل معه في صحفة [2] واحدة يلازم النجاسة فإنّه امّا ان يأكل بيده فالأمر ظاهر حيث انّه بمجرّد إدخال اليد فيها يتنجّس الطعام و امّا بالملعقة فإذا أدخلها في فمه و أخرجها فلا محالة هي متنجّسة لمباشرتها لفمه و شفتيه فإذا أدخل الملعقة في الصّحفة أو وضعها فيها يتنجّس الطعام طبعا كما يتنجّس الإناء أيضا، فعلى اىّ حال يلازم أكل المسلم معه الأكل من النجس، و لذا نهى الامام عن ذلك.

و امّا النهي عن إقعاده على فراشه في قوله عليه السلام: (و لا يقعده على فراشه) فهو نهى تنزيهيّ، إرشادا إلى انّه يمكن ان تكون لواحد من أعضائه

و أطرافه رطوبة و يتنجّس الفراش بجلوسه عليه، و ليس المراد منه انّه يتنجّس تحقيقا و على اىّ حال بمجرّد جلوسه عليه.

و يمكن ان يكون النهي لأجل عدم كرامة في جلوسه على فراش المسلم.

______________________________

[1]. وسائل الشيعة ج 2 ب 37 من أبواب النجاسات ح 4 عن ابى عبد اللّه عليه السلام: كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم انه قذر.

[2]. الصحفة إناء كالقصعة و الجمع صحاف مثل كلبة و كلاب، و قال الزمخشري: الصحفة قطعة مستطيلة، راجع المصباح المنير ص 403

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 47

و على هذين الوجهين ايضا يحمل نهيه عليه السلام عن إقعاده على مسجده و محلّ عبادته و سجوده.

و امّا قوله عليه السلام: (و لا يصافحه) فقد علم وجهه ممّا ذكرناه، فراجع.

و امّا تجويزه عليه السلام الصلاة في الثوب الذي اشتراه من مسلم، دون ما اشتراه من نصرانيّ، فإنّه لا يصلّى فيه، فالوجه في ذلك انّ كونه مسلما امارة على الطهارة، و كونه نصرانيا امارة على النّجاسة، لا ان يكون النجاسة قطعيّة و من المعلوم انّ الثوب المشترى من النّصرانيّ في السوق تارة يكون من الجلود المحتاجة إلى التذكية، فحكمه واضح، و اخرى يكون متّخذا من غيرها كالقطن مثلا فالنجاسة هنا و ان لم تكن قطعيّة، الّا انّ يد الكفّار امارة على نجاسته.

و على الجملة فهذه المطالب ليست من باب التعبّد المحض بل الكافر نجس فلذا يتنجّس ثوبه الذي مسّه بيده و بدنه مع الرطوبة يقينا، فإذا علمنا انّ الثوب الخاصّ هو ثوبه، و لكن لم تعلم مسّه له كذلك، فمجرّد كون الثوب له و هو مالكه امارة على ذلك، و لذا يحكم بنجاسته كما لو كنّا نعلم نجاسته بالقطع و

الوجدان.

و منها عن علىّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السلام قال: سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة و أرقد معه على فراش واحد و أصافحه؟

قال: لا «1» هذه ايضا ظاهرة في عدم جواز مؤاكلة المسلم المجوسي في قصعة واحدة، و منع الرقود معه على فراش واحد، و الاجتناب عن مصافحته، و هذه الأمور كلّها كاشفة عن كونه نجسا.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 6

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 48

و منها عن هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: انّى أخالط المجوسي فآكل من طعامهم؟ فقال: لا «1» و دلالتها ايضا على المراد ظاهرة.

و منها: عن سماعة قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن طعام أهل الذمّة ما يحلّ منه؟ قال: الحبوب. «2»

معلوم انّ الحبوب لا يباشرها الكافر بجزء من بدنه مع الرطوبة، فلذا حكم الامام بحلّيّتها لطهارتها، و على الجملة فقد رخّص استعمال الحبوب و أكلها و كذا ما أشبهها مما لا يقبل النجاسة، و ان باشروها بأيديهم بخلاف الغذاء المطبوخ فإنّه لا محالة يباشره بيده رطبة فلذا لا يحل لكونه نجسا.

و منها: عن علىّ بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام عن النصرانيّ يغتسل مع المسلم في الحمّام قال: إذا علم انّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمّام الّا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل. و سأله عن اليهوديّ و النصرانيّ يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا الّا ان يضطرّ اليه. «3»

و الظاهر منها انّ علىّ بن جعفر سأل أخاه الإمام عن الحياض الصغار الّتي تكون تحت مضخّة يدفع بها الماء

و يصبّ منها في هذه الحياض و لم تكن كرّا و كان الناس يقومون على جنبها و يغتسلون من الجنابة مثلا، و لو كانت كرّا لم يكن اغتسال النصراني منها موجبا للنجاسة، و لذا قال الامام عليه السلام: إذا علم انّ هذا الذي يغتسل معه نصرانيّ فيغتسل هذا المسلم بغير ماء الحمّام يعنى لا يغتسل بهذا الماء.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 7

(2). وسائل الشيعة ج 16 ب 51 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 1

(3). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 49

و امّا قوله عليه السلام: (الّا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل) فالمقصود انّه لو كان النصراني في الحمّام و فرغ من تنظيفه و ذهب و أراد المسلم ان يغتسل في الحمام وحده فهنا يطهّر أطراف الحوض و نواحيه فانّ نفس الحوض و ماءه يتطهران بفتح المضخّة الممتّصة من البئر أو المتّصلة بالمادة فإذا صبّ الماء منها في الحوض يتطهّر الحوض و ماءه فلا حاجة الى أكثر من تطهير جوانب الحوض بخلاف ما إذا كان يغتسل مع النصراني فإنّه لا محالة يتنجّس الحوض و كذا يتقاطر من بدن النصراني و يترشح الى بدنه و الى نواحي الحوض و جوانبه و لا يتيسّر الاغتسال في تلك الظروف و الأحوال، و على الجملة فهذه الفقرات كلّها تدلّ على نجاسة النصراني «فتأمّل».

نعم ذيل الرواية أعني قوله (و سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا الّا ان يضطرّ اليه) فهو محلّ البحث و الكلام حيث انّ الظاهر منه جواز الوضوء من الماء

الذي أدخل النّصرانيّ يده فيه عند الاضطرار الى الوضوء منه في حين انّه لو كان قد تنجّس الماء بذلك فلا يصحّ الوضوء منه، لعدم جواز الوضوء بالماء النجس، فتجويز الامام الوضوء بهذا الماء لا يساعد نجاسة النصراني و بعبارة اخرى انّه كاشف عن طهارته.

لكن حملها الشيخ الطوسي رضوان اللّه عليه على التقية [1] بيان ذلك انّ التقيّة

______________________________

[1]. هكذا أفاد سيّدنا الأستاذ الأكبر مدّ ظلّه العالي كما أنّه المحكىّ في كلام شيخنا الأنصاري في طهارته و الفقيه الهمداني في طهارته أيضا.

لكنّي لم أجد ذلك في كتب الشيخ رغم الفحص البالغ و قد روى هذا الخبر في التهذيب ج 1 الطبع الجديد ص 223 و لم يقل في ذيله كلمة أصلا نعم روى بعده خبر عمّار الساباطي قائلا: و امّا الخبر الذي رواه سعد. عن عمّار الساباطي عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الرجل هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب على انّه يهودي؟ فقال: نعم قلت فمن ذاك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم. ثم قال الشيخ: فهذا محمول على انّه إذا شرب منه من يظنّه يهوديّا و لم يتحقّقه فيجب ان لا يحكم عليه بالنجاسة إلّا مع اليقين أو أراد به من كان يهوديّا ثمّ أسلم فامّا في

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 50

قسمان:

أحدهما: تقيّة الامام عليه السلام بنفسه لكنّه ليس هذه مراد الشيخ و لا يمكن القول بها فإنّ الإمام صرّح بنجاستهم قبل هذه الجملة بقوله: (إذا علم انّه نصرانيّ اغتسل بغير ماء الحمّام) و أنت ترى انّ هذه الجملة نصّ في مخالفة العامّة القائلين بطهارة النصارى فلو كان الامام عليه السلام بنفسه في مقام التقيّة لما

تفوّه بهذه الجملة الناطقة بخلاف مذهبهم و مذاقهم.

ثانيها: تقيّة الشيعة و أصحاب الأئمة عليهم السلام فأجاز الإمام لهم عند الاضطرار، الوضوء من هذا الماء النجس حتّى يعملوا بهذا الدستور، و لا يتظاهروا بخلاف مذهب العامّة، فإنّهم لو اجتنبوا عن النصارى حتّى في حال الاضطرار معتنين و ملتزمين بذلك كيفما كانوا فلا محالة يراهم أهل السنة كذلك و يعرفون عند العامّة بالمخالفة لهم، و يكون هذا سببا هامّا لابتلائهم و اصابة السوء و الأذى منهم، و لذا استثنى صورة الاضطرار، و قال: الّا ان يضطرّ إليه.

يعني إذا اضطرّ الى استعماله و التوضّؤ منه فلا بأس به و يجوز هناك الوضوء من الماء الذي قد تنجّس بإدخال النصراني يده فيه فيوافق حكمه بذلك قوله:

عليه السلام التقيّة من ديني و دين آبائي. [1]

و على هذا فوظيفة المسلم التوضّؤ من الماء المزبور ما دامت التقية، فما دام مضطرا كان حكمه ذلك، و الوضوء من هذا الماء للمضطرّ إليه لأجل التقية كالوضوء من الماء الطاهر للمختار و من ليس له اضطرار، و واجد لتمام المصالح الّتي كانت في الوضوء من الماء الطاهر، و قد أتى هذا المتوضئ بما هو وظيفته، و

______________________________

حال كونه يهوديّا فلا يجوز التوضؤ بسؤره انتهى و لم يذكر هنا ايضا اسما من التقيّة أصلا. و لعلّه قدّس سرّه ذكره في موضع آخر لم اصادفه.

[1]. عن معمّر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: التّقية من ديني و دين آبائي و لا ايمان لمن لا تقيّة له. الوسائل ج 11 ص 460 ح 3

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 51

ما كان في عهدته، و ما قرّره

اللّه عليه، و طلب منه.

و الحاصل: انّ هذا الوضوء و وضوء المختار بالماء الطاهر على حدّ سواء، و لا نقصان في الأوّل بالنسبة إلى الآخر أصلا حتّى في ترتّب الآثار الوضعيّة كالطهارة و النجاسة مضافا الى ترتّب الآثار التكليفية فهذا الماء طاهر الآن أي في حال التقية كماء لم يصبه الكافر أصلا بالنسبة إلى الآخرين.

اشكال الهمداني و الجواب عنه

ثم انّ الفقيه الهمداني رضوان اللّه عليه بعد تقريره حمل الأخبار الظّاهرة في الطهارة على التقيّة في مقام العمل- بان يعمل السائلون و غيرهم من الشيعة على ما يوافق مذهب العامّة اتّقاء شرّهم و كيدهم- استشكل في خصوص الآثار الوضعيّة قال:. فالّذي يحتمل قويا كونها صادرة لأجل التقية في مقام العمل بمعنى انّه قصد بها ان يعمل السائلون على ما يوافق مذهب العامّة كيلا يصيبهم منهم سوء، و لا مبعّد لهذا الاحتمال عدا الآثار الوضعيّة الثابتة للنجاسات فإنّه لو لم يكن لها إلّا الأحكام التكليفية الّتي يرفعها دليل نفي الحرج و نحوه لكان الأمر فيها هيّنا لكن على تقدير نجاسة الكتابيّ و تنجّس من خالطه و استلزام تنجّسه بطلان وضوئه و غسله المتوقّف عليهما صلاته و صومه و سائر عباداته المتوقّفة على الطهور لدى قدرته من تطهير بدنه و استعمال الماء الطاهر أو التيمّم بدلا منهما لدى العجز عن التطهير فمن المستبعد جدّا ان يأمر الإمام بمخالطتهم و مساورتهم من غير ان يبيّن لهم نجاستهم حتّى يتحفّظوا عنها في طهورهم و صلاتهم و لو بالتّيمم بدلا من الوضوء و الغسل مع انّ العادة قاضية بقدرتهم

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 52

على التيمم غالبا من غير ان يترتّب عليه مفسدة هذا «1» لكن لا وقع لهذا الاشكال بعد ما

قرّرناه من انّ مقتضى كون التقيّة دين الامام و دين آبائه عليهم السلام هو ان يكون الوضوء بهذا الماء النجس من الدين و وظيفة شرعيّة إلهية لمن كان في معرض التقيّة فيترتّب على وضوئه كلّ الآثار المختلفة المترتبة على الوضوء بالماء الطاهر الواقعي للمختار سواء في ذلك الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة، لا التكليفيّة وحدها، و على هذا فلا إشكال أصلا.

و يؤيّد ما ذكرناه من ترتّب مطلق الأحكام و الآثار، حكمهم بكفاية الصلاة مع الوضوء نكسا عند التقيّة و انّه لا حاجة الى قضاءها بعد ذلك، فانّ هذا كاشف عن حصول الطهارة به التي هي حكم من الأحكام الوضعيّة، و الّا فلا صلاة بلا طهور.

و بهذا البيان يجمع بين نجاسة الماء، و جواز الوضوء منه، و عدم لزوم تنبيه الامام الشيعة أو السائلين على كونه متنجّسا بالملاقاة، و محصّل الكلام انّ امره عليه السلام بالوضوء منه كان للتّقيّة هذا.

لكن مع ذلك كلّه فهنا احتمال آخر ايضا غير الحمل على التّقية و هو العفو عن النجاسة عند الضرورة فيكون قوله عليه السلام: (الّا ان يضطرّ اليه) يراد به انّ الوضوء من هذا الماء النجس لدى الاضطرار و عند الابتلاء به جائز، و قد عفى عن هذه النجاسة في هذه الحالة، و قد مال المحقّق الهمداني أيضا إليه في آخر كلامه فراجع.

و على الجملة فهذه الأخبار الشريفة و غيرها ممّا لم نتعرّض لها [1] تدلّ على

______________________________

[1]. أقول مثل ما رواه العلامة في التذكرة ص 8 و الشهيد في الذكرى ص 13 عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و قد سئل أنّا بأرض قوم أهل كتاب نأكل من آنيتهم: لا تأكلوا فيها الّا ان لا تجدوا غيرها

فاغسلوها ثم كلوا فيها. و قال العلّامة أعلى اللّه مقامه في نهاية الأحكام ج 1 ص 273 عند ذكر

______________________________

(1). مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 561

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 53

نجاسة الكفّار. و لو فرض عدم وضوح دلالة كلّ واحد منها على ذلك فهي مشتملة على روايات صحيحة السند واضحة الدلالة ناطقة بنجاسة اليهود و النصارى و المجوس و هذه تكفينا، نعم لنا اخبار ربما تستظهر منها طهارتهم و نحن نتعرّض لها عند ذكر أدلّة القائلين بها و نجيب عنها إنشاء اللّه تعالى فانتظر.

______________________________

النجاسات: العاشر: الكافر نجس العين عند علمائنا كافّة لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ. و لأنّ أبا ثعلبة قال: قلت يا رسول اللّه آنا بأرض أهل الكتاب أ فنأكل في آنيتهم؟ فقال عليه السلام: ان وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، و ان لم تجدوا غيرها فاغسلوها و كلوا فيها، و قال عليه السلام: المؤمن ليس ينجس، و التعليق على الوصف المناسب يشعر بالعلّية إلخ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 55

الكلام حول الإجماع على النجاسة

و من الوجوه التي تمسّك بها القائلون بنجاسة اليهود و النصارى- مضافا الى المشركين و الملاحدة- هو الإجماع، فنقول: ذهب علماء الأصحاب و فقهاء الشيعة خلفا عن سلف الى القول بنجاسة أهل الكتاب، و لم يظهر بينهم خلاف في ذلك، بحيث ادّعى الإجماع على نجاستهم [1] و عدم الخلاف في المسئلة، بعد

______________________________

[1]. أقول و ممّن ادّعى الإجماع هو السيّد و كثير من اعلام الشيعة فقال السيّد المرتضى علم الهدى في كتاب الطهارة من الانتصار: و ممّا انفردت به الإماميّة القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كلّ كافر. و يدلّ على صحّة ذلك مضافا الى إجماع

الشيعة عليه قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إلخ. و قال في الناصريّات: عندنا انّ سؤر كلّ كافر بأيّ ضرب من الكفر كان كافرا، نجس.

دليلنا على صحّة ما ذهبنا اليه بعد إجماع الفرقة المحقّة قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إلخ.

و قال الشيخ في التهذيب ج 1 ص 223: اجمع المسلمون على نجاسة المشركين و الكفّار إطلاقا و ذلك ايضا يوجب نجاسة أسئارهم إلخ. و قال العلّامة في المنتهى ج 1 ص 168: الكفّار أنجاس و هو مذهب علمائنا اجمع سواء كانوا أهل كتاب أو حربيّين أو مرتدّين و على اىّ صنف كانوا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 56

انّه لا خلاف قطعا في نجاسة المشركين و منكري الصانع و أمثالهم، و على الجملة فهذا هو مذهب علمائنا الأخيار المتفرّقين في البلدان و الأمصار، طيلة قرون و أعصار، فهم أجمعوا على نجاسة الكفار و لم يخالفوا في ذلك، نعم نسب الخلاف الى شاذّ منهم و هم الشيخان- المفيد و الطوسي- و القديمان- العمّاني و الإسكافي- و لكنّ الظاهر عدم خلافهم ايضا فيما هو المقصود، فانّ السبب في عدّ الشيخ من المخالفين انّه قال في النهاية «1»: و يكره ان يدعو الإنسان أحدا من الكفار الى طعامه فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه ان شاء انتهى.

حيث انّه عبّر بالكراهة و لم يقل يحرم و مفاد كلامه انّ المؤاكلة مع الكفار للمسلم مكروه، و كذا قال بأنّه لو دعاه الى طعامه فليأمره بأن يغسل يده ثم يأكل هذا المسلم مع الكافر الذي غسل يديه، فلو كان نجسا ذاتيّا فكيف يؤمر بغسل يديه؟ و هل غسل اليد يرفع النجاسة العينيّة و يزيلها؟.

و على الجملة فكراهة الأكل

معه و امره بغسل اليدين ينافيان النجاسة العينيّة الذاتية.

و فيه انّه قدّس سرّه قال في النهاية قبل العبارة المذكورة بأسطر قليلة: لا يجوز مؤاكلة الكفّار على اختلاف مللهم و لا استعمال أوانيهم إلّا بعد غسلها بالماء، و كلّ طعام تولّاه بعض الكفّار بأيديهم و باشروه بنفوسهم لم يجزأ كله لأنّهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إيّاه و قد رخّص في جواز استعمال الحبوب و ما أشبهها ممّا لا يقبل النجاسة و ان باشروها بأيديهم، انتهى كلامه رفع

______________________________

و قال علم التحقيق شيخنا الأنصاري قدّس سرّه في طهارته بعد ادعاءه الإجماعات المستفيضة:

بل يمكن دعوى الإجماع المحقّق.

______________________________

(1). كتاب الأطعمة و الأشربة باب الأطعمة المحظورة و المباحة ص 589

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 57

مقامه. «1»

و هذه العبائر كما ترى صريحة جدّا في نجاستهم بحيث لا تنالها أيدي الاحتمالات و هي نصوص قاطعة منه قدّس سرّه على موافقته للمشهور في نجاسة الكفّار، و انّهم من النجاسات، فهل يمكن ان يقال انّه نسي تلك العبارات الناطقة بالمطلوب، و غفل عنها أو انّه رجع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة و الاسطر القليلة، و افتى بخلافه؟. فحينئذ لا بدّ من ردّ اللاحق الى السابق و حمل عبارته الأخيرة على ما لا تخالف كلامه الصريح، [1] و هذا بمكان من السهولة، و حمل الظاهر على النصّ أمر رائج عند الفقهاء.

و يؤيّد ذلك انّ ارادة الحرمة من الكراهة و استعمال الكراهة في الحرمة في كلمات أصحابنا السابقين و أساطير اعلامنا الماضين غير عزيز، و ارادة المعنى اللغويّ من الكراهة في عرف القدماء شايعة. [2]

و ان أبيت عن ذلك فنقول: سلّمنا إرادة الكراهة المصطلحة من لفظ الكراهة، الّا انّ المراد من المؤاكلة هنا

المؤاكلة في اليابس.

و امّا الأمر بغسل يده ثمّ الأكل معه فلا يستلزم جواز الأكل معه بعد ذلك مطلقا حتّى في إناء واحد كي يستلزم ذلك كونه طاهرا بالذات بل المقصود من غسلها نظافتها و رفع القذارة عنها كيلا يتنفّر الجلساء [3] فيأكل هذا من إناء و ذاك

______________________________

[1]. بتنزيل الطعام على ما ليس برطب، و ما لا سراية فيه كطبخ الأرز، يأكل من جانب، و غسل اليدين لازالة ما عساه يعلّق بأيديهم من اقذارهم ثم ينتظر حتى يجفّ، كذا في وسائل الشيعة للفقيه الكاظميّ ص 145

[2]. أقول: و قد صرّح في المبسوط بنجاسة أواني المشركين و أهل الكتاب و سائر الكفار إذا باشروها بأجسامهم فراجع ج 1 منه ص 14

[3]. أقول: و قد تعرّض لهذا، المحقّق في نكت النهاية و أجاب ببعض ما افاده سيّدنا الأستاذ، دام ظلّه العالي و إليك عين العبارة: قوله و يكره ان يدعو الإنسان واحدا من الكفّار الى طعامه

______________________________

(1). نفس الصفحة المذكورة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 58

من آخر و المؤاكلة مع أحد لا يستلزم وحدة الإناء أيضا.

هذا بالنسبة إلى شيخ الطائفة أعلى اللّه مقامه.

و امّا الشيخ المفيد قدّس اللّه إسراره فقد عبّر في الرسالة الغريّة بالكراهة في أسئارهم و صار هذا التعبير منه سببا في عدّه ايضا من المخالفين.

لكن الظاهر عدم دلالته على كونه قائلا بطهارتهم، لإمكان إرادة الحرمة من الكراهة كما ذكرناه آنفا.

و يؤيد ذلك انّه في غير هذه الرسالة من كتبه افتى بالنجاسة.

هذا مضافا الى انّ اتباعه و تلاميذه الذين هم اعرف بمذهبه و فتاواه من غيرهم ادّعوا الإجماع على النجاسة، و لم ينقلوا عنه خلافا، و لا القول بكراهة أسئار الكفّار- اليهود و النصارى- و

هو بمكانه الخاصّ به من كونه رئيس الفرقة، و عماد الأمّة، بل نقله عنه بعد ذلك المتوسّطون، فهو لم يحسب مخالفا في المسئلة عند أصحابه و اتباعه، و على ذلك فلا بدّ امّا من حمل الكراهة في كلامه على الحرمة، كما احتملنا ذلك في كلام شيخ الطائفة، و امّا من القول بأنّه قد عدل عن قوله كما يشهد بذلك شأن سائر كتبه، و ما ذكرنا من حال أصحابه و تلاميذه.

و على هذا فكيف يعدّ و يحسب المفيد مخالفا في المسئلة و الحال هذه؟ و هل يمكن نسبة المخالفة اليه مع تلك القرائن الظاهرة و الأمارات الدّالّة على قوله بالنجاسة؟.

______________________________

فيأكل معه فان دعاه فليأمره بغسل يده ثم يأكل معه ان شاء. ما الفائدة في الغسل و هو لا يطهر به؟ الجواب الكفّار لا يتورّعون عن كثير من النجاسات، فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة و هذا يحمل على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس، و غسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينية و ان لم يفد طهارة اليد. ثم استشهد المحقّق برواية عيص بن قاسم فراجع الجوامع الفقهيّة ص 437.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 59

و امّا ابن ابى عقيل فهو و ان كان يقول بطهارة سؤر الذمي، الّا انّه ليس ذلك لأجل كونه قائلا بالطهارة، بل انّ فتواه بذلك ناشئة عمّا تحقّق عنده من عدم انفعال الماء القليل بملاقات النجس، و من نسب الخلاف اليه استفاد ذلك من تصريحه بطهارة سؤر الذمي، و الحال انّ افتاءه بطهارة سؤره مبنىّ على اجتهاد خاصّ به في الماء القليل حيث انّه على خلاف كافّة العلماء و الأصحاب- القائلين بأنّ الماء القليل يتنجّس

بملاقات النجاسة، و انّ الكرّ لا يتنجّس إلّا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بها- يقول انّ الماء القليل ايضا مثل الكثير لا يتنجّس بمجرّد الملاقاة، و بعبارة اخرى انّه قائل بعدم انفعال القليل بالنجاسة، و سؤر الذمي طاهر عنده لذلك- بعد تخصيص السؤر بالماء [1]- فلا يدلّ افتاءه بذلك على طهارتهم أصلا.

بقي من هؤلاء الذين قد يدّعى مخالفتهم للأصحاب ابن الجنيد الإسكافي. [2]

و الذي يسهّل الخطب و يهوّن الأمر أنّه مرميّ بشذوذ القول و الميل الى القياس و الإفتاء غالبا على طبق مذهب العامّة و قد شنعوا عليه في ذلك و صار

______________________________

[1]. أقول: كما عليه جملة من الأصحاب على ما صرّح به في المدارك. و قال في كشف الغطاء:

الأسئار جمع سؤر و هو فضلة الشرب من قليل الماء من حيوان ناطق أو صامت و ان اشتهر في الثاني أو ما أصاب أو اصابه فم حيوان أو جسم حيوان كذلك و الأظهر الأوّل.

[2]. فإنّ له كلامين ظاهرين في مخالفته للأصحاب و ذهابه إلى طهارة أهل الكتاب و قد نقلهما علم التقى الشيخ المرتضى قدّس سرّه الشريف في طهارته.

قال في أحد كلاميه: التجنّب من سؤر من يستحلّ المحرّمات من مليّ أو ذميّ أحبّ إليه إذا كان الماء قليلا.

و في الآخر: انّ التجنّب ممّا صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم و في آنيتهم و ممّا صنع في أواني مستحلي الميتة و مؤاكلتهم ما لم تيقّن طهارة آنيتهم و أيديهم أحوط، انتهى.

فتارة عبّر، بأنّ التجنّب أحبّ و اخرى بأنّه أحوط فتأمّل.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 60

هذا سببا لرفض أقواله عند الأصحاب و عدم اعتنائهم بفتاويه [1] و على هذا فافتاءه بطهارة أهل الكتاب غير ضائر بالإجماع بعد

ان كان رأيه متروكا.

و لذا لم يوافقه في هذه الفتوى أحد من المتقدّمين و لم يسلك سبيله في هذا الرأي من عرف بدقّة النظر و جودة الرأي من المتأخرين.

نعم مال اليه المحقّق السبزواري [2] و المحدّث الفيض الكاشاني رضوان اللّه عليهما إلّا أنّهما ايضا معروفان بشذوذ القول و مرميّان بالفتاوى الغريبة و الآراء النادرة حتّى انّه قد يقال في حقّ الأوّل منهما انّه في المتأخرين كابن الجنيد في المتقدّمين.

فتحصّل ممّا ذكرنا في هذا المضمار انّ الإجماع قائم على نجاستهم بلا خلاف قادح في المسئلة.

نعم يمكن ان يقال: انّ الإجماع لا يعتدّ به في المقام لعدم كونه دليلا مستقلّا ممتازا عن الأدلّة اللفظيّة الواردة. و الإجماع حجّة إذا لم يكن في المسئلة دليل صالح للاستناد إليه، فإنّه يحدس هناك وجود دليل معتبر عند المجمعين و

______________________________

[1]. أقول يؤيّد ما افاده سيّدنا الأستاذ دام ظله ما ذكره المحقّق التستري في المقابيس. فإنّه بعد ان مدح الإسكافي بألفاظ شريفة و اطراه الاطراء الجميل الفائق كقوله: العزيز النظير البالغ في الفقه و سائر فنون العلم أقصى المراتب. قال: و صنّف كتبا كثيرة جيّدة حسنة بديعة و ان كان بعضها ممّا يتعلّق بالقياس و الاجتهاد فاسد الوضع كما بيّناه في موضع آخر و قد نقلوا عنه انّه كان يرى القول بالقياس فتركت لذلك كتبه و لم يعوّل عليها. انتهى.

و في مقدّمة كتاب المقنع: و حكى بعض انّ الشيخ المفيد قدّس سرّه صرّح في بعض أجوبة المسائل الواردة عليه انّه نسب اليه- ابن الجنيد- العمل بالقياس و اتّهم بالسلوك مسالك العامّة في الفقه.

[1]. قال في الكفاية: و لا خلاف بين الأصحاب في نجاسة غير أهل الكتاب من أصناف الكفار، و في

نجاسة أهل الكتاب خلاف و المشهور بين الأصحاب نجاستهم و ذهب المفيد في أحد قوليه و ابن الجنيد إلى الطهارة و أدلّة النجاسة محلّ بحث و الاخبار المعتبرة دالّة على الطهارة لكن لا ينبغي الجرأة على مخالفة المشهور المدّعى عليه الإجماع.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 61

عثورهم عليه، حيث انّ بناءهم كان على ان لا يتكلّموا من عند أنفسهم و بدون دليل معتبر موثوق به و امّا إذا كان في المسئلة دليل صالح لان يستند اليه المجمعون فالاعتماد هناك عليه و الاستناد اليه، و ليس الإجماع شيئا ورائه، و اللّازم حينئذ الإقبال و التوجّه الى هذا الدليل الذي يصلح للاستناد اليه و لو بالنسبة الى بعض دون الآخرين.

و الظاهر عندي انّ مسئلتنا كذلك فانّ الدليل على نجاستهم هو الآية الكريمة الظاهرة في نجاستهم، و الروايات الشريفة الدّالّة على ذلك، غاية الأمر انّ الخاصّة و أصحاب الأئمة أخذوا بظاهر الآية و حكموا بالنّجاسة العينيّة الذاتيّة كما انّ الأئمة عليهم السلام أخذوا هذا المعنى من القرآن الشريف و الآية الكريمة و نشروه و روّجوه بأخبارهم فاتّخذ الشيعة سبيلهم و سلكوا طريقهم و على منهاجهم.

و امّا العامّة فهم قالوا بالنجاسة الحكمية مؤوّلين الآية الكريمة عليها و هذا أيضا أثر سيّئ من آثار انحرافهم عن معاهد أهل البيت و ثمرة تباعدهم عن ولاية أسره رسول اللّه خزّان علم اللّه و مهابط وحيه و تراجمة كتابه و ينابيع أحكامه. أجل انحرفوا عنهم فصاروا يتيهون في كلّ واد و يسيرون خلف كلّ ناعق. و على الجملة فهذا كما ذكرنا تأويل منهم في الآية حيث انّها ظاهرة في النجاسة الذاتية، و فيما ذكره الشيخ الطوسي قدّس سرّه: (انّ الكفار نجس في

الجملة) إشارة الى ما ذكرناه فانّ قوله: (في الجملة يعنى امّا ذاتا كما يقوله الشيعة و امّا حكما كما جنح إليه العامّة هذا و قد علمت ممّا ذكرنا انّ استناد الأصحاب في الحكم بالنجاسة مطلقا الى الآية الكريمة و الروايات، فهم قد فهموا و استظهروا النجاسة، و أفتوا بها، و أجمعوا عليها، و لم يظهر بينهم طوال الأعصار الكثيرة و السنوات المتمادية خلاف يعبأ به، فالإعراض عن هذا النظر و غمض العين عن فتوى الاعلام و الأجلّة، و الرغبة عن الحكم بالنجاسة في غاية الإشكال.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 62

لا يقال انّ الحكم بنجاسة البئر كان مجمعا عليه بين المتقدّمين فكانوا يفتون بوجوب نزح المقدّرات عند تنجّسه، قاطعين به، ثمّ بعد مضىّ قرون متوالية على هذا اعرض العلماء عن ذلك و أفتوا بعدم تنجّسه بالملاقاة و قالوا باستحباب المنزوحات و اشتهر هذا القول حتّى اتّفقت كلمة المتأخّرين على ذلك، بلا قيل و قال، فأيّ إشكال أو بعد في كون مسئلتنا ايضا كذلك و ان يفتي المتأخرون بطهارة أهل الكتاب و يوافقوا المحقّق السبزواري مثلا و زملاءه في الإفتاء بذلك بعد ان كان السابقون مجمعين على النجاسة؟

فإنّا نقول: بين المسألتين بون بعيد و فرق ظاهر، فانّ مسئلة البئر و نزحه حكم لم يكن له عرق قرآني بل مأخذه اخبار واردة في الباب فقط، و هذه الاخبار و ان كانت مسلّمة الصّدور عنهم عليهم السلام و لم يكن صدورها للتّقية لكنّها مع ذلك لم تكن بنحو يوجب حكم الفقهاء جزما بنجاسة البئر لأجلها.

فترى الشيخ الصدوق قدّس سرّه قال في الهداية: ماء البئر واسع لا يفسده شي ء، [1] ثم ذكر مقادير النزح من دون تصريح بالنجاسة

و هذا سواء كان عين فتواه و نظره أو انّه كانت رواية نقلها بصورة الفتوى لا يدلّ على أكثر من حسن النزح و استحبابه، أو على الوجوب تعبّدا، و لا دلالة فيه على النجاسة، و لا تصريح فيه بذلك.

و ذهب شيخ الطائفة ايضا الى القول بعدم الانفعال و التنجّس على ما نسب إليه العلّامة في المختلف، و مال إليه جماعة ذكر أسمائهم في مفتاح الكرامة «1» و آل الأمر الى ان قال بعض العلماء: [2] انّ الإجماع القائم على انفعال البئر بالملاقاة

______________________________

[1]. الهداية ص 14، لكن في النسخة الموجودة عندي: ماء النهر. فراجع

[2]. هو المحقّق الهمداني على ما يستفاد من كلامه قدّس سرّه.

______________________________

(1). ج 1 ص 79

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 63

إجماع اجتهاديّ، اى انّ البحث في الدلالة، فهم قد فهموا من تلك الاخبار نجاسته، و بحذائهم قوم لم يفهموا ذلك و لم يستظهروه منها بل استفادوا و استظهروا منها الطهارة، لكنّهم يرون أنفسهم في معرض الاتّهام لو أفتوا بما تحقّق عندهم أو انّهم كانوا يراعون الأدب بالنسبة إلى الأعاظم و رؤساء المذهب القائلين بالنجاسة فلم يبدو ما علموا و استمرّوا على ذلك، الى ان تجرّأ بعض و فتح باب المخالفة و افتى فرقة ضئيلة بالطهارة نظرا الى كون رواياتها أقوى عندهم و بمجرّد افتتاح هذا الطريق الصعب اقبل المتأخرون اليه و اتّبعوا هذه الجماعة القليلة فرحين بذلك فأفتوا بالطهارة مع كونهم بحيث نعرفهم بعدم بناءهم على مخالفة الاخبار أو الخروج عن مقتضى الأدب بالنسبة إلى ساحة الأكابر، و القدماء الأخيار، و السلف الأبرار، بل كان لهم كمال الاهتمام بالأدب الى مقامهم العظيم و شأنهم الرفيع و هذا هو الدليل على كونه

اجتهاديّا و عدم وجود عرق أصيل للمسئلة حيث انّهم مع غاية اهتمامهم بكلمات الاعلام السابقين اتّفقوا على خلافهم حتّى انّ الفقيه الهمداني رضوان اللّه عليه دعا لهم و شكر مساعى من أبدى المخالفة و هوّن الخطب «1» هذا حال تلك المسئلة.

و امّا مسئلتنا هذه فقد خالف المحقّق السبزواري مثلا رأى القدماء، و افتى بطهارتهم، و لكنّهم لم يتّبعوه بل كلّ من قال بالطهارة تركه العلماء وحيدا و رفضوا كلامه، و أعرضوا عن طريقه جدّا فكم فرق بين مسئلتنا الّتي تدلّ عليها الآية الكريمة، و ظاهر الروايات تبعيّتها- غاية الأمر أنّه وردت أخبار في طهارة أهل الكتاب المعلوم صدورها تقيّة من أهل السنة و الحكّام الظالمين- و بين مسئلة البئر الّتي هي اجتهادية محضة، و إفتاء القدماء فيها بخلاف أخبار الطهارة لا يوجب طرحها.

______________________________

(1). راجع مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 35

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 64

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه لا حجّة لي فيما بيني و بين اللّه في القول بطهارتهم و لا في الاعتماد على اخبار الطهارة مع أعراض المشهور [1] و أعاظم العلماء بل كلّهم عنها، و ذلك لعدم الوثوق بها و الحال هذه.

ان قيل انّ بعض المتأخرين قال بأنّه لا يلزم في الأخذ بالخبر و الاعتماد عليه و العمل به كون الرواية بنفسها موثوقا بها بل يكفي في ذلك كون الراوي محلّ الوثوق فمجرّد الاطمئنان براوي الخبر كاف في العمل به و ان لم يكن الخبر بنفسه كذلك، و ما نحن فيه من هذا الباب فإنّ الأخبار الدّالّة على الطهارة أخبار رواها العدول و الموثّقون، و هذا يوجب الاطمئنان بها و الوثوق بصدورها و صحّتها فكيف تطرحونها و تفتون بخلافها؟.

نقول: اللازم

هو الوثوق بنفس الرواية، غاية الأمر انّ لإثبات وثاقة الخبر طرقا من جملتها وثاقة الراوي، فإذا لم يكن شأن الخبر معلوما فوثاقة الرواة امارة توجب الوثوق بالرواية، لا ان يكون وثاقة الراوي كافية مطلقا حتّى و ان ظهرت علامات الكذب و لاحت أمارات بطلان الرواية اتّفاقا، فليس معنى قول الراوي:

أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني [2] انّ ما رواه الثقة يؤخذ به و ان

______________________________

[1]. أقول: خصوصا بلحاظ ما قاله الوحيد البهبهاني قدّس سرّه الشريف في تعليقاته على المدارك و هو قوله: في ص 85: الظاهر انّ الحكم بالنجاسة شعار الشيعة يعرفه علماء العامّة منهم بل و ينسبونهم اليه بلا تأمّل بل و عوامهم ايضا يعرفون انّ هذا مذهب الشيعة بل ربما كان نساؤهم و صبيانهم ايضا يعرفون ذلك بل اليهود و النصارى و المجوس و الصابئون و غيرهم من الكفّار ايضا يعرفون انّ ذلك مذهب الشيعة و مسلكهم في العمل و امّا الشيعة فهم ايضا يعرفون انّ مذهبهم كذلك و مسلكهم في الأعصار و الأمصار كان كذلك حتّى نساؤهم و صبيانهم فلا يضرّ خروج مثل ابن جنيد سيّما و هو أنكر حرمة القياس مع انّها من ضروريّات مذهبنا فلا مانع من خروج ابن ابى عقيل ايضا لما ذكرت و لما مرّ في نجاسة الخمر.

[2]. محمد بن نصير قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: جعلت فداك انّى لا أكاد أصل إليك أسئلك عن كلّ ما احتاج اليه من معالم ديني أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج اليه من معالم ديني؟ فقال نعم. جامع أحاديث الشيعة الطبع الجديد ج 1 ص 226

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص:

65

قامت القرائن الخارجيّة على خلافه، و كذا قول الامام عليه السلام في زكريّا بن آدم: المأمون على الدين و الدّنيا [1] ليس معناه كفاية وثاقة ناقل الخبر و كونه أمينا في الالتزام بالخبر و ان كانت أمارات الخلاف قائمة بحيث حصل الاطمئنان بأنّه لا أصل له و لا حقيقة بل اللّازم هو الاطمئنان بالخبر و ان كان بقرينة الوثوق بالراوي و ناشئا منه، و الخبر ان المذكوران آنفا و كذا أشباههما لا تفيد أكثر من انّه إذا وردت رواية و لم تقم القرائن على خلافها يعمل بها للوثوق بها بسبب الوثوق براويها الذي هو مثل يونس بن عبد الرحمن و زكريّا بن آدم القميّ.

و على هذا فلو كان الراوي ثقة أمينا لكن وجدت قرائن على عدم صحّة الرواية فهنا لا يتمسّك بها، و ما نحن فيه كذلك، حيث انّ الرواة موثوق بهم لكن الروايات بنفسها معرض عنها و نحن نفهم من أعراض الأصحاب- المهتمّين جدّا بالتعبّد بما وصل إليهم من الأئمة عليهم السلام- عنها عدم كونها منهم، و لو فرض كونها منهم و صادرة عنهم فهي مصداق لقول بعض الأصحاب لآخر منهم في بعض الأحيان: أعطاك من جراب النورة [2] فلم تصدر الّا لخصوصيّات و جهات لا

______________________________

[1]. عن علىّ بن مسيّب قال قلت للرضا عليه السلام شقتي بعيدة و لست أصل إليك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريّا بن آدم القميّ المأمون على الدّين و الدّنيا قال علىّ بن مسيّب فلمّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت اليه، المصدر السابق بعينه.

[2]. أقول: قال الطريحي في مجمع البحرين- باب نور- قوله عليه السلام: أعطاك من جراب النورة

لا من العين الصافية على الاستعارة، و الأصل فيه انّه سئل سائل محتاج من حاكم قسىّ القلب شيئا فعلّق على رأسه جراب نورة عند فمه و انفه كلّما تنفّس دخل في أنفه منها شي ء فصار مثلا يضرب لكلّ مكروه غير مرضىّ. و في الوسائل ج 17 ص 541 ب 1 من أبواب ميراث ولاء العتق ح 16 عن سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجل مات و له عندي مال و له ابنة و له موالي قال: فقال لي: اذهب فأعط البنت النصف و أمسك عن الباقي فلمّا جئت أخبرت أصحابنا بذلك فقالوا أعطاك من جراب النّورة فرجعت اليه فقلت: انّ أصحابنا قالوا لي:

أعطاك من جراب النورة قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة علم بها أحد؟ قلت: لا قال:

فأعط البنت الباقي.

و في رواية سلمة بن محرز المنقولة في ج 9 من الوسائل ب 10 من أبواب كفارات الاستمتاع:

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 66

اعتناء بمضامينها و بيانا لحكم اللّه الواقعي.

و يؤيّد ما ذكرنا- من انّ المعيار هو الوثوق بالخبر نفسه- انّه لو لم يكن الراوي لرواية خاصّة موثوقا به لكن رأينا العلماء- الذين هم خبرة الروايات و العارفون بصحيحها و سقيمها و غثّها و سمينها- قد عملوا بها وجب الأخذ بها و كلّما ازدادت ضعفا من حيث السند ازدادت قوة من حيث الدلالة.

تذنيب البحث

قد استظهرنا سابقا من الاخبار الشريفة نجاسة أهل الكتاب و من لحق بهم، لكونها ظاهرة بل صريحة في ذلك، لكنّها لم تكن متعرّضة لغيرهم و لم تذكر غير اليهود و النصارى و المجوس فما حكم غيرهم؟ و بعبارة أخرى لو فرض تعرّض الآية لخصوص المشركين و

هذه الروايات لأهل الكتاب فأيّ دليل يدلّ على نجاسة غيرهم من الكفّار؟

______________________________

فيمن واقع امرأته قبل طواف النساء فقال الصادق عليه السلام: ليس عليك شي ء فأخبر هو الأصحاب بذلك فقالوا له: اتّقاك و أعطاك من عين كدرة راجع ح 5.

و قال المولى الوحيد البهبهاني قدّس سرّه في فوائده (ص 314 ملاحظات): قد ورد في الاخبار انّ الشيعة كانوا يقولون في الحديث الذي وافق التّقيّة: أعطاك من جراب النورة قيل: مرادهم تشبيه المعصوم عليه السلام بالعطّار و كانوا يبيعون أجناس العطّارين بجربان و كان النورة ايضا يبيعون من جرابها- بجراب- فإذا أعطى التقية قالوا أعطاك من جرابها: اى مالا يؤكل و لو أكل لقتل، و الفائدة فيه دفع القاذورات و أمثالها و قيل: انّ النقباء لمّا خرجوا في أواخر زمن بنى أميّة في الخراسان و أظهروا الدعوة لبني العبّاس بعثوا إلى إبراهيم الإمام منهم بقبول الخلافة فقبل و هو في المدينة و كانت هي و سائر البلدان في تحت سلطنة بنى أميّة و حكمهم سوى خراسان إذ ظهر فيها النقباء و كانوا يقاتلون و يحاربون و لمّا اطّلع بنو أميّة بقبول إبراهيم الخليفة أخذوه و حبسوه و قتلوه خفية و وضعوا جراب النورة في حلقه فحنقوه به فصار ضرب المثل اشارة بالنسبة الى من ترك التقية و تاركها و كان هذا الكلام من الشيعة الى هذه الحكاية و مثلا مأخوذا منها.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 67

نقول: مذهب الشيعة نجاستهم ايضا و المستند في ذلك و ان أمكن ان يكون هو الإجماع الّا انّ الظاهر عدم استنادهم اليه، بل تمام المستند هو الآية الشريفة فلم يروا خصوصيّة للمشرك المذكور فيها كما انّهم لم يستظهروا من الاخبار

المذكورة الواردة في نجاسة أهل الكتاب دخل خصوصيّة كونهم كتابيّين في الحكم بنجاستهم فانّ كون الإنسان كتابيّا بنفسه غير مقتض للنجاسة و ليس هو عنوانا من العناوين المقتضية لها فالحكم دائر مدار الصّفة الخاصّة و هي الكفر فهو صفة خبيثة تكفي وحدها لترتّب هذا الأثر عليها و يدور مدارها.

كما ترى رعاية هذه النكتة في بعض الاخبار الشريفة مثل مرسلة الوشّاء عمّن ذكره عن ابى عبد اللّه عليه السلام انّه كره سؤر ولد الزنا و سؤر اليهودي و النصراني و المشرك و كلّ من خالف الإسلام و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. «1»

فانّ المستفاد منها انّ المقتضى للنجاسة هو المخالفة للإسلام بأيّ نحو كانت و بأيّ صورة اتّفقت و على كثرة ألوانها و تفرّق أغصانها غاية الأمر انّ الناصب شرّ مخالفي الإسلام.

و قد استدلّ المحقّق «2» رضوان اللّه عليه على نجاستهم بقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ. فتمسّك بإطلاق عدم الايمان و ظهور الرجس في النجاسة و قد مرّ البحث حول هذه الآية الكريمة عند الاستدلال بالآيات فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة ج 1 ب 3 من أبواب الأسئار ح 2

(2) أقول: قال في المعتبر ص 24 امّا الكفار فقسمان يهود و نصارى و من عداهما امّا القسم الثاني فالأصحاب متّفقون على نجاستهم سواء كان كفرهم أصليّا أو ارتداديّا لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و لقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 69

أدلّة القائلين بطهارة أهل الكتاب

اشارة

استدلّ القائلون بطهارة أهل الكتاب بوجوه ثلاثة: الأصل و الكتاب و السنّة.

امّا الأصل: فتقريره انّا نشكّ في كونهم محكومين بالنجاسة و مقتضى الأصل عند الشك في الطهارة و النجاسة هو الطهارة

فنحكم بها.

و فيه انّه معلوم غير خاف على أحد انّ الحكم عند الشك في الطهارة و النجاسة هو الطهارة عقلا و نقلا، فالعقل يحكم بطهارة كل شي ء لم يرد دليل من الشارع بنجاسته كما انّ الشّارع قد صرّح أيضا بطهارة كل شي ء حتّى يعلم انّه قذر، الّا انّ الأصل دليل حيث لا دليل و يؤخذ به و يصار اليه عند الشك و حين فقد الدليل على المطلب امّا إذا كان هناك دليل يمكن التمسك به على واحد من الجانبين فلا مجال للتمسك بالأصل و الاستدلال به، و ما نحن فيه كذلك لوجود

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 70

الدليل على النجاسة و هو الكتاب و الاخبار.

و بعبارة اخرى انّ الأصل منقطع بالآية الكريمة و الروايات الدّالّة على النجاسة، و انقطاعه بالدليل مانع عن التمسك به.

الاستدلال بالكتاب على طهارتهم

اشارة

و استدلّوا ايضا بقوله تعالى وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ «1».

تقرير الاستدلال انّ اللّه تعالى صرّح بحلّ طعام أهل الكتاب للمسلمين، و طعام المسلمين لأهل الكتاب، و إذا حلّ طعامهم- الذي صنعوه بأيديهم و عالجوه بمباشرتهم- للمسلمين فكيف يحكم بنجاستهم و الحال انّ حلّ طعامهم مستلزم لطهارة طعامهم و طهارة طعامهم مستلزم لطهارة أنفسهم، و هذا- أي طهارة الكتابي بذاته- هو المطلوب.

و فيه انّ الطّعام و ان كان بحسب الوضع اللغوي هو كلّ ما يطعم، نظير الشراب الذي هو اسم لما يشرب، فالموضوع له أوّلا هو المطلق لكنّه استعمل في البرّ [1] أو مطلق الحبوب كثيرا و ائمة أهل اللغة أيضا قد صرّحوا بذلك و قد نقلنا سابقا كلام بعضهم كالفيّومى في المصباح المنير و كذا صاحب المغرب و غيرهما من اللغويّين و

قد ورد هذا الإطلاق في كلام النّبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه في حديث ابى سعيد: كنّا نخرج صدقة الفطرة على عهد

______________________________

[1]. أقول: قال في القاموس: البرّ بالضمّ الحنطة. و قال الراغب في مفردات القرآن ص 41: البرّ معروف و تسميته بذلك لكونه أوسع ما يحتاج إليه في الغذاء انتهى.

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 7

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 71

رسول اللّه صاعا من طعام أو صاعا من شعير [1] فإنّه ذكر الطعام مقابل الشعير و هذا قرينة على انّ المراد من الطعام هو الحنطة و كأنّه قال: صاعا من البرّ أو من الحنطة.

و يمكن ان يكون السرّ في غلبة الطعام في البرّ و إطلاقه عليه بالخصوص هو كثرة الحاجة في محيط إطلاقه فكون الناس أشدّ حاجة الى البرّ هو السبب في إطلاق العام و المطلق عليه و صيرورته اسما له بخصوصه، و يمكن ان يكون ذلك لجهات اخرى و لا يهمّنا البحث عن ذلك.

و إذا تحقّق انّ الطعام اسم للحبوب مطلقا أو البرّ فقط أو غلب استعماله فيهما فأيّ إشكال في حمل الآية الكريمة على هذا المعنى؟ و إذا حملناها عليه فلا يثبت بها مراد المستدلّ فانّ حلّ الطعام المطبوخ أو المصنوع الذي باشروه و عالجوه بأيديهم و ان كان مستلزما لطهارة طعامهم، و هي مستلزمة لطهارة أنفسهم، و امّا حلّ البرّ أو مطلق الحبوب فلا يستلزم ذلك أصلا.

مع صاحب المنار

و قد ظهر ممّا ذكرنا حول الآية الكريمة انّ ما أورده صاحب المنار على الشيعة- في تفسير الطعام بالحبوب أو الحنطة- في غير محلّه قال في ذيل الآية الشريفة:

و فسّر الجمهور الطعام هنا بالذبائح، أو اللحوم، لانّ غيرها حلال

بقاعدة أصل الحلّ، و لم تحرم من المشركين، و الّا فالظّاهر انّه عامّ يشملها، و مذهب الشيعة انّ المراد بالطعام، الحبوب، أو البرّ، لانّه الغالب فيه و قد سئلت عن هذا

______________________________

[1]. نقله في الجواهر ج 6 ص 44 و قال الراغب في المفردات مادة طعم: و قد اختصّ بالبرّ فيما روى أبو سعيد انّ النبي أمر بصدقة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 72

في مجلس كان أكثره منهم و ذكرت الآية فقلت ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن فقد قال اللّه تعالى في هذه السورة أي المائدة أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ «1» و لا يقول أحد، انّ الطعام من صيد البحر هو البرّ أو الحبوب. و قال كُلُّ الطَّعٰامِ كٰانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ إِلّٰا مٰا حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَلىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرٰاةُ «2» و لم يقل أحد انّ المراد بالطعام هنا البرّ أو الحبّ مطلقا إذ لم يحرم شي ء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة و لا بعدها فالطعام في الأصل كلّ ما يطعم اى يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي «3» و قال فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا «4» اى أكلتم، و ليس الحبّ مظنّة التحليل و التحريم و انّما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسيّ كموت الحيوان حتف انفه و ما في معناه، أو معنويّ كالتقرّب به الى غير اللّه. «5»

فهو بذكر هذه الآيات و استشهاده بها صار بصدد إبطال ما قال به الشيعة و اثبت بزعمه انّ

تفسير الطعام بالحبوب أو البرّ خلاف آيات القرآن نفسها.

و فيه انّ الإطلاق المذكور على ما ذكرنا مؤيّد عند أهل اللغة، فلو أنكر كون هذا المعنى موضوعا له فلا يمكن إنكار أصل الاستعمال كما في كلّ مورد يطلق المطلق و يراد منه قسم خاصّ منه مع قرينة تدلّ عليه حاليّة أو مقاليّة أو غيرهما ككون هذا القسم الخاص أغلب من سائر الأقسام الموجودة في المطلق، أو كونه مظنّة للحاجة كثيرا، كما انّ الحبوب أو البرّ فيما نحن فيه كذلك، و لينظر

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 96

(2). سورة آل عمران، الآية 93

(3). سورة البقرة الآية 249

(4). سورة الأحزاب الآية 53

(5). المنار، ج 6 ص 178

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 73

صاحب المنار إلى أقوال اللغويّين و قد مرّ قسم منها.

و لا يخفى انّ هذا البحث غير مختصّ بالشيعة في هذه الآية الكريمة كما انّه غير مختصّ بهذه المسئلة بل هو بعينه جار بين أهل السنة أيضا في بعض المسائل الفقهيّة فإنّ أبا حنيفة و الشافعي الذين هما من أئمة العامّة قد اختلفا فيمن وكل وكيلا على ان يبتاع له طعاما فقال الشافعي: لا يجوز ان يبتاع الّا الحنطة و قال أبو حنيفة: يكفي ان يشترى الدقيق ايضا [1] و هكذا لو قال المولى لعبده ادخل السوق و اشتر الطعام. فان بعضهم قال بأنّ المراد من السوق هنا هو سوق البرّ لانّ الطعام هو البرّ.

و هذه المسئلة نظير المسئلة المعروفة بين فقهاء الشيعة في فدية المساكين فإنّهم اتّفقوا على عدم الاجتزاء بقيمة الطعام و اختلفوا في انّه يجب إعطاء خصوص البرّ كما قاله بعض أو يكفي إعطاء الشعير ايضا كما قاله الآخرون.

و على الجملة فلا مجال أصلا

للإشكال في استعمال الطعام في البرّ و لا يلزم من قولنا هذا استعماله فيه مطلقا و في كلّ الموارد حتّى يستشكل صاحب المنار و ينقض بتلك الآيات الكريمة، بل الغرض هو خصوص آية حلّ الطعام.

الطعام في السّنّة

ثمّ انّ الذي يحملنا على الإصرار على هذا المطلب و إثبات إطلاق الطعام

______________________________

[1]. أقول: ذكر ذلك السيّد ابن زهرة في الغنية و قال بعد ذلك: ذكر ذلك المحاملي في آخر كتاب البيوع من كتابه الأوسط في الخلاف، و ذكره الأقطع في آخر كتاب الوكالة من شرح القدورى، و قال في الشرح: و الأصل في ذلك انّ الطعام اسم للحنطة و دقيقها و انّما أحوجنا الى ذكر مذهب المخالف في ذلك و الإحالة على كتبهم إنكار من أنكره من جهّالهم الى آخر كلامه زيد في علوّ مقامه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 74

في اللغة و الاصطلاح على الحبوب أو البرّ انّما هو الجواب عن صاحب المنار و زملائه ممّن أنكروا على الأصحاب في ذلك، و صاروا بصدد الطعن و الوقيعة فيهم.

و امّا الشيعة فيكفيهم جملة واحدة و هي تفسير الطعام بالحبوب في لسان الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين و هم بما وهبهم اللّه تعالى من العلم الغزير و الفهم البالغ و بما انّهم أهل بيت الوحي و التنزيل و مهابط نور اللّه و عندهم ما نزلت به رسله و هبطت به ملائكته، و العلم بما أراد اللّه تعالى من الآيات الكريمة، قالوا بأنّ المراد من الطعام في الآية الشريفة المبحوث عنها هو الحبوب مثلا لا كلّ ما يساغ و يبتلع، و بها ينقطع الكلام و يثبت المقصود و المرام، فانّ الشيعة تعتقد في الأئمة الطاهرين عليهم السلام العلم

و العصمة و انّهم مستودع علوم رسول اللّه الذي: لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ «1» فما قاله الامام هو الصحيح العاري عن كلّ ريب و شائبة، و هو الحق، و عين الحق، و ليس في خلافه حقّ، و ان كان على خلاف الظواهر أو مخالفا لقول أهل اللغة.

فهو نظير ما إذا علمنا عقلا انّ الظاهر ليس بمراد كما في قوله تعالى:

الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ «2» حيث انّ ظاهره ان اللّه تعالى متحيّز و له مكان و الحال انّا نعلم عقلا انّ اللّه تعالى ليس جسما حتّى يستوى و يستقرّ على العرش، و العقل ينكر ذلك جدّا فلذا نقول انّ المراد منه استواءه بقدرته، و استيلائه و سلطانه على عالم الوجود.

و على الجملة فلا بعد أصلا في ان يطلق اللّه تعالى لفظا عامّا و يقول الامام عليه السلام الّذي هو المفسّر لكلام اللّه و ترجمان آياته و الشارح لمراده انّه أريد منه كذا، كما فيما نحن فيه حيث انّ الروايات الصحيحة و اخبار العترة الطاهرة

______________________________

(1). سورة و النجم الآية 3

(2). سورة طه الآية 5

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 75

تصرّح بأنّ المراد من الطعام في الآية الحبوب. [1] فكيف يمكن ان يقال انّ المراد منه هو مطلق الطعام مع ورود هذه الروايات الشريفة الصريحة، و وجودها؟

لا يقال: انّه يلزم من ذلك تخصيص الأكثر حيث ان الطعام موضوع لكلّ ما يؤكل و يبتلع و اين هذا من تخصيصه بالحبوب.

لأنّا نقول: ليس هذا من باب التخصيص أصلا كي يرد عليه الاشكال بلزوم تخصيص الأكثر، بل هو من باب التفسير، حيث انّ الامام عليه السلام الذي هو ترجمان وحي اللّه و اعلم الناس

بأحكامه و شرائعه و المرادات من كتابه يخبرنا بأنّ اللّه تعالى أراد من الطعام كذا، و اين هذا من التخصيص؟

أضف الى ما ذكر من الجوابين:- أحدهما كون المراد من الطعام هو البرّ و

______________________________

[1]. و إليك بعض هذه الاخبار الناطقة بذلك:

عن ابى الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، قال: الحبوب و البقول (1) و عن قتيبة الأعشى عن ابى عبد اللّه عليه السلام في حديث انّه سئل عن قوله تعالى وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، قال: كان ابى يقول: انّما هي الحبوب و أشباهها (2) و عن هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه تعالى: و طعامهم (وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ) حِلٌّ لَكُمْ، فقال:

العدس و الحمّص و غير ذلك (3) و عن محمّد بن علىّ بن الحسين قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: و طعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم، قال: يعنى الحبوب (4) و بإسناده عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال: العدس و الحمّص و غير ذلك (5) العيّاشي في تفسيره عن هشام بن سالم عن ابى عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه تبارك و تعالى وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ، قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك يعنى من أهل الكتاب (6) و عن سماعة عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن طعام أهل الذّمّة ما يحلّ منه؟ قال:

الحبوب (7) عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن

طعام أهل الذّمة ما يحلّ منه؟ قال: الحبوب (8) راجع وسائل الشيعة ج 16 ح 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 1 و 2.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 76

إطلاقه عليه في اللغة و الاصطلاح، ثانيهما ورود الروايات بذلك عن تراجمة كتاب اللّه- جوابا ثالثا و هو انّا نقول: سلّمنا كون الطعام مطلقا يشمل غير الحبوب أيضا إلّا انّا نقول انّ الآية ناظرة إلى حكم ذات الطعام بعنوانه الاوّلى فكون الطعام طعاما لهم ليس بنفسه علّة للحرمة فإنّ إضافة الطعام الى (الذين أوتوا الكتاب) ظاهرة في خصوصيّة انتسابه إليهم، و تعلّقه بهم، و كونه لهم، و هذه الإضافة بمجرّدها لا توجب الحرمة، فالطعام المملوك لهم حلال على المؤمنين من حيث ذاته، لكن يمكن عروض عوارض توجب الحرمة، فإنّ الحلّية الذاتيّة لا إطلاق لها يشمل الحالات العارضة و العناوين الطارية فلو صار هذا الطعام سؤرا له و كان فضل غذائه و بقيّة طعامه و ادخل يده فيه أو باشره بشفتيه فلا يكون حلالا كما انّه إذا قيل انّ طعام أهل الكتاب حلّ لكم فهذا لا يشمل الخنزير المذبوح عندهم حتّى يحتاج إخراجه إلى التخصيص و قد أمضينا في ذلك كلاما ايضا فراجع و لاحظ.

نعم لمّا كان بعض أطعمتهم ملازما للنجاسة و لا ينفك عنها نظير المطبوخات الّتي يعالجونها بأجسامهم و يباشرونها بأيديهم فلذا يقول الإمام بأنّ المراد من الطعام الحبوب مثلا، يعنى انّ غيرها و ان كان متّصفا بالحليّة الذاتية الّا انّه محرّم لعروض العارض و طروّ حالة أوجبت النجاسة.

الا ترى انّه لو قيل لمن يريد دخول قرية: انّ طعام أهل هذه القرية حلال، ثم بعد ذلك قال انسان

مطّلع على شأن القرية و حال أهلها: انّ مراد هذا القائل هو غير ذبائحهم فانّ ذبحهم ليس شرعيّا، فهذا لا ينافي الحكم الأوّل بالحليّة، لانّ الحلّ ذاتيّ و الحرمة عرضيّة.

و لا يخفى انّه يجرى في قول الامام عليه السلام و تفسيره احتمال آخر و هو كونه في مقام بيان الحليّة الفعليّة فإنّها محقّقة في الحبوب غير محقّقة في

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 77

غيرها.

و ما قيل من ان المراد من حلّ الطعام هو حلّ ذبائحهم فقط على المسلمين لأنّهم سئلوا عن ذلك و ليس المراد هو الحبوب لعدم كونها في معرض الحاجة و السؤال.

ففيه انّ اللّه تعالى بيّن و أوضح حكم الذبيحة غير الشرعية قبل نزول سورة المائدة المدنيّة في سورة الانعام الّتي هي مكيّة و صرّح بكونها فسقا، و نهى صريحا عن أكلها، و حرّم ذلك، فقال فَكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيٰاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَ مٰا لَكُمْ أَلّٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.

وَ لٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ. «1» فكيف تكون آية الحلّ متعلقة بذبائحهم مع هذه التعابير القارعة التي نزلت قبل ذلك؟

اللّهم الّا ان تكون آية الحلّ ناسخة لآيات الحرمة من سورة الانعام و هو بعيد غايته، فانّ تلك الآيات الشريفة بلسانها الجازم و بيانها القاطع و تعابيرها الخاصّة و الخصوصيّات الملحوظة فيها آبية عن النسخ [1] فلا وجه لحملها عليه، و لا لتفسير حلّ طعامهم بحلّ ذبائحهم، و لا دليل على ذلك أصلا، و ان قاله أكثر المفسّرين [2] فإنّهم لم يأخذوه من عين صافية بل أخذوه من مثل قتادة و من

______________________________

[1].

أقول: بل يظهر من بعض الأعاظم عكس ذلك اى نسخ آية الحلّ بآية الحرمة فهذا هو السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي يقول: و طعام الكفّار الذي باشروه بالرطوبة نجس يجب الاجتناب عنه مطلقا و ان عملوا بشرائط الذّمة و كانوا في بلاد المسلمين و الآية الشريفة وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ منسوخة أو المراد من الطعام فيها كما يستفاد من الاخبار هو الحنطة و الشعير و الأرز من الحبوب اليابسة. راجع السؤال و الجواب منه ص 125

[2]. أقول: قال الأردبيلي في آيات الأحكام ص 361: قيل المراد بالطعام ذبائحهم قال في من قاله أكثر المفسّرين و أكثر الفقهاء و جماعة من أصحابنا و لا يخفى بعده إذ ليس معنى الطعام الذبيحة لا لغة و لا عرفا و لا شرعا.

______________________________

(1). سورة الانعام الآيات 121- 118

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 78

يحذو حذوه، و امّا لو كان المراد من الطعام مطلقه الشّامل للذبيحة ايضا فليس الإطلاق بنحو يمنع عن جريان الشروط كلّها بعد العلم باعتبارها حتّى لا يلزم مثلا ذكر اسم اللّه عليها.

و بعبارة أخرى إطلاق الحلّ لا يوجب إسقاط الشروط التي نعلم شرطيّتها، و الحكم بعدم لزوم ذكر اسم اللّه عليها مع العلم بكونه شرطا تمسّكا بإطلاق الحلّ، في غاية الفساد، و بمكان من البطلان، بلا اىّ خفاء فيه، فهل ترى من نفسك إذا سمعت قول اللّه تعالى فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ. «1» ان تقول انّه مطلق و إطلاقه يقتضي الأكل منه بلا اىّ شرط و قيد حتى يحكم بعدم لزوم التطهير بالنسبة إلى محلّ ملاقاة فم الكلب منه؟ و هل ترى منافاة بين قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ «2» و قوله تعالى

وَ لٰا تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ؟ «3» كلّا فلا يتفوّه بذلك فقيه، و لا يمكن المصير إليه أبدا، فالأمر فيما نحن فيه ايضا كذلك حيث انّه دلّت الأدلّة الشرعيّة على نجاسة سؤر الكافر اعنى الفضلة من شرابه أو البقيّة من طعامه و ما لاقاه بيده أو بدنه رطبا و هذه الأدلّة هي ما ذكرناها فراجع.

فحينئذ فإذا سمعنا انّ اللّه حلّل لنا طعام الكافر فلا بدّ و ان نشعر من هذا التحليل المستفاد من الآية الكريمة، الحلّية من حيث كونه طعاما و لا منافاة بينها و بين نجاستها لأجل كونه سؤرا له، أو لمسّه الطعام مع الرطوبة.

فتحصّل انّ الآية الكريمة بصدد إثبات مطلب آخر، حيث انّ اللّه تعالى حرّض المؤمنين و حثّهم على ان يكونوا أشدّاء و اعزّة قبال الكفّار و شوقهم على ان ينقطعوا عنهم و لا يعتمدوا عليهم و لا يتّخذهم أولياء و بطانة فقال:

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 5

(2). سورة المائدة الآية 1

(3). سورة الانعام الآية 121

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 79

وَ لَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصٰارىٰ حَتّٰى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ «1» و قال ايضا:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ «2» الى غيرها من الآيات الشريفة، فالمسلمون تخيّلوا حرمة أيّ ارتباط و علقة بينهم و بين اليهود و النصارى حتّى الاقتصادىّ منها و توهّموا انّ اشتراء أمتعتهم أيضا حرام ممنوع عنه بحيث لو حملت يهود خيبر مثلا الحنطة و الشعير و الحبوب إلى المدينة لكان يحرم عليهم شراؤها منهم و كذا استشعروا حرمة أيّ عنوان من عناوين المعاملات الرائجة

الناقلة إذا حدث بينهم و بين اليهود و النصارى فلذا نبّههم اللّه على خطأهم و أعلن إباحة هذه الوجوه بقوله الكريم وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فأجاز التصرف فيما انتقل عنهم إلى المؤمنين بوجه شرعي و من المؤمنين إليهم كذلك و أحلّ المعاشرة معهم و لم يعلن اليأس الباتّ منهم بل ابرز التسامح الإسلامي.

هل الطعام بمعنى الإطعام؟

بقي في المقام انّه ذكر بعض انّ الطعام في الآية الكريمة بمعنى الإطعام فمعناها أنّ إطعام أهل الكتاب لكم جائز و اطعامكم لهم جائز.

و فيه انّه و ان أمكن ذلك على حسب القواعد الأدبيّة بل و له شواهد ايضا من الآيات الكريمة [1] الّا انّه خلاف الظاهر فانّ الظاهر من الطعام و المفهوم منه

______________________________

[1]. أقول: فمنها قوله تعالى في سورة البقرة الآية 180 وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ، و منها قوله تعالى في سورة الحاقّة الآية 34 و سورة الماعون الآية 3 وَ لٰا يَحُضُّ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ و منها قوله في سورة و الفجر الآية 19 وَ لٰا تَحَاضُّونَ عَلىٰ طَعٰامِ الْمِسْكِينِ.

______________________________

(1). سورة البقرة الآية 120

(2). سورة المائدة الآية 51

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 80

لغة كونه اسما للشي ء الذي يطعم و يؤكل لا لما هو عمل و فعل للإنسان مثلا فارادة المعنى المصدري و عنوان كونه فعلا من الأفعال خلاف الظاهر.

هذا مضافا الى انّه تعالى يقول وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ و معناه على ما ذكره هذا القائل انّ إطعام أهل الكتاب لكم حلال و جائز لكم و يلزم من ذلك حلّية فعل غير المسلمين- أهل الكتاب- للمسلمين فالفعل فعل أهل الكتاب و مع ذلك يحلّ و

يباح للمؤمنين و هذا من البعد بمكان. و لو كان المراد هذا المعنى فالأنسب بل اللازم ان يقول: يحلّ لكم ان تكونوا ضيوفا لأهل الكتاب أو: يجوز و يباح لكم الحضور في ضيافتهم، و أمثال ذلك من التعابير الظاهرة في المعنى المزبور.

هذا تمام الكلام في هذا المقام حول قول الملك العلّام. و صفوة البحث انّه لا دلالة لهذه الآية الكريمة على مراد من استدلّ بها على طهارة أهل الكتاب.

الأخبار التي تمسّك بها القائلون بالطهارة

اشارة

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، در يك جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار؛ ص: 80

و استدلّ القائلون بطهارة أهل الكتاب أيضا بأخبار نقلها الاعلام و أصحاب الحديث.

منها رواية عيص بن القاسم الصحيحة قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهودي و النصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك. و سألته عن مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس. «1»

وجه الاستدلال بها انّ الامام عليه السلام جوّز مؤاكلة اليهودي و النصراني

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 16 ب 53 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 81

مطلقا بشرط كون الطعام من المسلم و إطلاق تجويز مؤاكلتهم يقتضي الطهارة، و الكلام في المجوسي هو الكلام فيهما.

و فيه انّ المراد من مؤاكلتهم الجلوس معهم على المائدة و الأكل منها معا و نحن لا ننكر جواز ذلك ابدا لكنّه لا يثبت به المطلوب و لا يدلّ هذا على طهارتهم أصلا. الا ترى انّه ربما يجلس جماعة كثيرة على مائدة، و خوان طعام، و لا يدخل أحد منهم يده في إناء الآخرين، بل كلّ منهم يأكل من إنائه الخاصّ

به، و من بين يديه، و لا يقرب يده من إناء سائر الضيوف و الجالسين على المائدة، فضلا عن ان يمسّ طعامهم بيده و بدنه، فالرواية لا تدلّ على أكلهم من إناء واحد مشترك فيه و ان الكتابي مسّ الطعام بيده، كي يكون تجويز الامام عليه السلام المؤاكلة الخاصّة دليلا على طهارة أهل الكتاب.

بل يمكن ان يقال: انّ هذا الخبر أدلّ على النجاسة من الطهارة حيث انّ الامام قيّد الجواز بما إذا كان من طعامه لا من طعام الكتابي فإنّ المفهوم من الجملة الشرطيّة المذكورة في كلام الامام عليه السلام البأس و الاشكال في المؤاكلة إذا كان الطعام منهم، لا من المسلمين، و عدم جواز مؤاكلتهم على هذا الطعام. و السرّ في ذلك و وجهه عدم كونه مأمونا عليه من النجاسة، فهذا بنفسه قرينة على انّ جواز مؤاكلة المسلم أهل الكتاب مشروط بعدم تنجيسهم للطعام و عدم تنجّسه برطوبتهم مثلا، و الّا فلا يجوز مؤاكلتهم حتّى على طعام المسلم.

و على الجملة فالحق انّه لو وضعنا هذه الرواية في جنب الروايات الناطقة بنجاسة أسئارهم لما رأينا بينهما معارضة أصلا، فأيّ معارضة توجد بين حلّية مؤاكلتهم و بين حرمة سؤرهم؟ فهذا شي ء و ذلك شي ء لا تعلّق لأحدهما بالآخر، و بينهما كمال الملائمة و المساعدة. هذا بالنسبة إلى صدر الرواية الشريفة.

و امّا ذيلها اعنى قضيّة مؤاكلة المجوسي و تجويز الامام ذلك مشروطا بما

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 82

إذا توضّأ،- يعني إذا غسل يده فلا اشكال بها- فلا دلالة فيه ايضا على مراد المستدلّ لأنّ غاية ما يمكن ان يقرّر هو انّ قول الامام عليه السلام دليل على انّه إذا غسل يده يأكل مع المسلم،

و غسل اليد لأجل إزالة النجاسة الظاهرية، حيث انّ النّجاسة الذاتية غير قابلة للرفع بالماء و إزالته به.

و فيه انّ غسل اليد لم يكن لإزالة النجاسة بل لرفع الدرن و القذارة و زوال الاستقذار و الاستنفار النفساني خصوصا بلحاظ انّ المجوسيّ لا يبالي بالأوساخ و القذارات، و كون القذارة بمرأى الآكل يوجب ان لا يسيغ عليه الطعام و ربّما يأكل- و الحال هذه- مع كره و ملال و نفرة، بل ربّما يتهوع منه، فغسل المجوسي يده لأجل ان لا يستكره المسلم الطعام من قذارة يده، و كما انّ الإنسان يأمر ابنه الصغير غير المبالي ان يغسل يده عند جلوسه على المائدة و الحال انّه لا يأكل من إنائه- بل كلّ يأكل من إناءه الخاصّ به- هكذا يأمر المسلم المجوسي بغسل يده، فيأكل من إنائه، و لا ملازمة بين غسل يده و الأكل من إناء يأكل منه المسلم.

و منها صحيحة إبراهيم بن ابى محمود قال: قلت للرضا عليه السلام:

الجارية النصرانيّة تخدمك و أنت تعلم أنّها نصرانية لا تتوضأ و لا تغتسل من جنابة قال: لا بأس تغسل يديها. «1»

وجه الاستدلال انّه يظهر منها انّ غسل النصرانيّة يديها كاف في تولّيها أمور البيت الّتي تتعلّق بالخادمة كطبخ الطعام و غير ذلك و هذا يدلّ على انّ نجاستها ليست ذاتيّة.

و نحن نقول قبل الجواب عنه انّ من المحتمل انّه كانت للإمام عليه السلام جارية نصرانيّة و كان إبراهيم بصدد الإيراد و الاشكال عليه في القضيّة الخارجيّة و خصوص الجارية المعيّنة الّتي كانت تخدم الرضا عليه السلام أو استفهام وجه

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 3 ب 54 من أبواب النجاسات ح 2.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 83

ذلك

فأجابه الإمام بما اجابه به.

و يحتمل كون السؤال عن القضيّة الكليّة الحقيقيّة و جريه على نحو الأسئلة الدائرة بين الناس حيث انّهم عند السؤال عن حكم شي ء يضربون المثل على أنفسهم أو على مخاطبهم أو على غائب على سبيل الفرض و التقدير، و غرضهم هو تصوير المسئلة و إحضارها، و ترسيم صورة السؤال و تجسيمها في نظر المخاطب، لا انّه وقعت هذه الواقعة للسائل أو للمخاطب أو غيرهما و ابتلى بها خارجا، و بناء على هذا لا يلزم كون الجارية المذكورة للإمام عليه السلام و أيّا ما كان فلا يهمنّا ذلك و انّما تعرّضنا له لأنّه نكتة لا يخلو التنبيه عليها عن الفائدة و انّما المهمّ في المقام الجواب عنه فنقول:

انّه و ان كان من المحتمل كون السؤال عن وجه استخدام المسلم جارية نصرانيّة غير مبالية بالطهارة و النجاسة، و هي تجنب و لا تغتسل- و لا يصحّ غسلها لو اغتسلت- و لازم ذلك هو تنجّس أثاث البيت مثلا فأجاب الإمام بجواز ذلك معلّلا بأنّها تغسل يديها اى لا تتنجّس الأثاث لغسلها يديها، و على هذا الاحتمال تكون الرواية دليلا لهم و ناطقة بما حاولوا إثباته و استدلّوا بها عليه أعني طهارة أهل الكتاب ذاتا.

الّا انّ فيها احتمالا آخر أظهر و أقوى من الاحتمال المزبور و هو ان يكون السؤال عن أصل جواز الاستخدام و عدمه، و كانّ السائل يستبعد جواز استخدام المسلم النصرانية خصوصا بملاحظة انّها لا تغتسل و لا تتوضّأ، فذكر هذه الأمور و الجهات لم يكن لأجل كونها مدارا للسؤال بل تمام المدار في السؤال هو استخدام النصرانية بلحاظ كونها نصرانية، و كان ذكر الجهات المذكورة لأجل إظهار مزيد التنفّر منها، و

استبعاد جواز ان تكون خادمة للمسلم، و بعبارة اخرى كان لتقريب عدم الجواز، و قد أجاب الإمام بالجواز، و عدم البأس لأنّها بغسل

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 84

يديها تزيل الأوساخ المنفرة.

و لا منافاة بين جواز أصل الاستخدام بين و نجاسة الأسئار و ما لمسته بيدها و بدنها المستفادة من الأدلّة السابقة و لا معارضة بينهما أصلا فإنّ المعارضة هي كون الدليلين بحيث لو ألقاهما المتكلّم معا صدق عليه انّه يتناقض في أقواله و انّه يقول أوّلا شيئا و يتكلّم بما يخالفه ثانيا و ما نحن فيه ليس كذلك فانّ بين الدليلين كمال الملائمة و لا يصدق على المتكلم بهما انّه يتناقض و يتكلّم بما يخالف ما قاله أوّلا.

و على الجملة فلا بأس باستخدام المسلم الجارية النصرانية من حيث كونها كذلك و لو مسّت شيئا مع نداوة في البين يتأثر و يتنجّس بذلك و يلزم غسله، و امّا قذارات يدها فأمرها سهل، لأنّه يأمرها بغسل يدها و إزالتها عنها.

هذا مضافا الى انّ أمر الاستخدام بمكان من السهولة حيث يمكن ان يستخدمها لأمور غير مستلزمة للنجاسة ككنس الدار و طحن الحنطة و الشعير و أشباه ذلك لا في طبخ الطعام و أمثاله.

و منها صحيحة إبراهيم بن ابى محمود ايضا قال: قلت للرضا عليه السلام:

الخيّاط أو القصّار يكون يهوديّا أو نصرانيّا و أنت تعلم انّه يبول و لا يتوضأ ما تقول في عمله؟ قال: لا بأس. [1]

وجه الاستدلال بها انّ الامام عليه السلام أجاز كون اليهودي أو النصراني خيّاطا للمسلم أو قصّارا له يخيط أو يبيّض ثيابه و الحال انّ نجاسة الخيّاط أو القصّار تلازم نجاسة الثوب الذي خاطه أو حوّره و بيّضه ملازمة عاديّة

فهذا

______________________________

[1]. التهذيب ج 6 ص 385 الوافي ج 1 ص 32 من أبواب الطهارة قال المحدّث الفيض رحمه اللّه:

لا يتوضّأ أي لا يستنجى و المراد بعمله معموله و هو الثوب يخيطه أو يقصره انتهى ثمّ لا يخفى انّ لقب إبراهيم بن ابى محمود هو الخراساني.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 85

يكشف عن طهارتهم.

و فيه انّ هذه لا تدل على أزيد من جواز استئجارهم للعمل و لا دلالة فيها على جواز مباشرة ما باشروه مع الرطوبة و لو صحّت الملازمة المذكورة للزم طهارة بولهما أيضا لأنّ الفرض بحسب تصريح الرواية انّه يبول و لا يغسل و من المعلوم انّه يتلوّث بدنه أو يده أو كلاهما، فهذا يكشف عن ان السؤال لم يكن عن الطهارة و النجاسة، بل عن مجرّد استيجار هما للخياطة أو القصارة، و عن الاستفادة من عملهم، و قد جوّز الامام ذلك، فلا بأس ان يخيط اليهودي مثلا ثوب المسلم، غاية الأمر انّه لو علم انّه نجّسه فلا بدّ له من ان يطهّره و لو لم يعلم فلا يحتاج الى الغسل و التطهير أصلا و كذا لا يلزم في القصّار ان يكون طاهر العين كما في باب كلب الصيد حيث انّه مع نجاسة عينا يحلّ صيده.

و منها صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ثمّ سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله و لا تتركه تقول انّه حرام و لكن تتركه تنزّها عنه انّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير.

تقرير الاستدلال انّ الامام عليه السلام علّل النهى عن أكل طعام أهل الكتاب بمباشرتهم

النجاسات حيث قال: انّ في آنيتهم الخمر و لحم الخنزير. و هذا كاشف عن عدم نجاستهم الذاتية و الّا لكانت اولى و انسب بالتعليل بها، و لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضيّة مع تحقّق النجاسة الذاتية. [1]

______________________________

[1]. قال صاحب المعالم في معالم الدين ص 255 في ذيل هذه الرواية: قال والدي رحمه اللّه: تعليل النهي في هذه الرواية بمباشرتهم للنجاسات تدلّ على عدم نجاسة ذواتهم إذ لو كانت نجسة لم يحسن التعليل بالنجاسة العرضيّة التي قد تتفق و قد لا تتفق انتهى.

و قال المحدث الكاشاني في الوافي ج 2 باب طعام أهل الذمة: و المستفاد من كثير من اخبار هذا الباب عدم نجاسة أهل الذمة أو عدم تعدّى نجاستهم لأنّ الأمر باجتنابهم فيها معلّل

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 86

و نحن نقول: لا خفاء في صدر الرواية حيث انّ إسماعيل سئل الإمام عن أكل طعام أهل الكتاب و نهاه الإمام في الجواب عن اكله و سكت قليلا ثم نهاه ثانيا عنه و سكت قليلا ايضا فنهاه ثالثا عنه الّا انّه أضاف هنا شيئا و هو قوله: و لا تتركه تقول إلخ و معنى هذه الفقرة: احذر من ان تقول انّه حرام بل اترك طعامهم تنزّها عن الخمر و لحم الخنزير و كأنّه عليه السلام يقول: انّى نهيتك عن اكله لهذه الجهة و قلت لك لا تأكله و في هذه الفقرة نوع خفاء حيث يحتمل فيها وجهان:

أحدهما: كونها لبيان حكم اللّه الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ، عاريا عن كلّ شائبة و لا شكّ على ذلك في انّ دلالة الرواية على مطلوبهم و مرادهم ظاهرة لانه أسند النهي عن ترك طعامهم الى التنزّه عن الخمر و الخنزير.

ثانيها:

انه عليه السلام بيّن حكم اللّه بقوله: لا تأكله فنهاه عن أكل طعامهم لنجاستهم عينا و ذاتا لكنّه أتى بالفقرة الأخيرة رعاية للتقيّة، حيث انّه بعد ذكر حكم اللّه الحقيقي لاحظ شأن المجلس و حضور رجال الأمن و مأمورى الدولة الظالمة و الجواسيس الأشرار و العملاء الأقذار و رأى لزوم رعاية أهل الخلاف اتّقاء شرّهم فذكر هذه الجملة أو انّه رأى ابتلاء الراوي بهم و لذا قال له: لا تتركه إلخ يعني لا يصدر منك القول بالحرمة فانّى نهيتك عن أكله لأجل أنّ أوانيهم متلطّخة و ملوّثة بالخمر و لحم الخنزير- الذين يجتنب عنهما أهل الخلاف ايضا.

و لا يخفى انّ الظاهر من هذين الاحتمالين- بلحاظ إفتاء أهل السنة

______________________________

باستعمالهم الميتة و الدم و لحم الخنزير و الخمر و نحو ذلك و لا ينافي هذا النهى عن مؤاكلتهم في بعضها أو مصافحتهم لاحتمال ان يكون ذلك لشركهم و خبثهم الباطني و ان يكون إطلاق النجس عليهم حيث وقع بهذا المعنى دون وجوب غسل الملاقي.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 87

بطهارة أهل الكتاب و انّ القول بنجاستهم من متفرّدات الإماميّة و من شعار الشيعة- هو الثاني بل لا يدع لحاظ هذه الأمور للاوّل مجالا.

و يؤيّد ذلك نهيه عليه السلام عن التفوّه بأنّه حرام.

و الذي يظهر لي من الرواية انّ الامام بالغ في إثبات الحرمة و أكّد عليه الى ان كرّر النهى عن الأكل ثلاث مرّات، و هو يدلّ على مزيد الاهتمام به، و انّه حكم قطعي أصدره التفاتا، و عن عناية به، كي يقطع المخاطب به، و يطمئن اليه، و لكن نهاه في الآخر عن إظهار ذلك تقية كيلا يصيبه منهم سوء. [1]

______________________________

[1]. أقول: انّ لشيخنا

البهائي قدّس سرّه جوابا آخر عن هذه الرواية بعد ان اعترف بإشعار التعليل فيها بأنّ نجاستهم عرضيّة لا لذواتهم و أعيانهم فإنّه قال: و لا يذهب عليك انّ نهيه عليه السلام عن طعامهم ثم سكوته هنية ثم نهيه ثم سكوته هنية اخرى ثم أمره في المرّة الثالثة بالتنزّه عنه لا تحريمه ممّا يؤذن بالتردّد في حكمه و حاشاهم سلام اللّه عليهم من التردّد فيما يصدر عنهم من الأحكام فانّ أحكامهم ليست صادرة عن الظن بل هم صلوات اللّه عليهم قاطعون في كلّ ما يحكمون به و قد لاح لي على ذلك دليل أوردته في شرحي على الصحيفة الكاملة فهذا الحديث من هذه الجهة معلول المتن و ذلك يوجب ضعفه.

ثم قال في الحاشية: ان قلت يمكن حمل التردّد المذكور على وقوع السؤال في مجلس كان مظنّة للتقيّة بحضور بعض المخالفين فيه فتردّد عليه السلام في انّه هل يفتي أم لا.

قلت هذا الحمل أيضا يقتضي ضعف التعويل على هذا الحديث لجواز ترجيحه عليه السلام التقيّة بل هذا هو الواقع لانّه عليه السلام قد أجاب بما يوافق العامة من عدم نجاستهم. راجع حبل المتين ص 99.

و قال في مشرق الشمسين ص 360: ما تضمّنه هذا الحديث من نهيه عليه السلام عن أكل طعامهم أوّلا ثم سكوته هنيئة ثانيا ثمّ سكوته ثم أمره أخيرا بالتنزّه عنه يوجب الطعن في متنه لإشعاره بتردّده عليه السلام في هذا الحكم و انّ قوله هذا عن ظنّ و حاشاهم عليهم السلام ان يكون أحكامهم صادرة عن ظنّ كأحكام المجتهدين بل كلّما يحكمون به فهو قطعيّ لهم لا يجوّزون نقيضه.

و يخطر بالبال في الاستدلال على انّ كلّ أحكامهم عليهم السلام صادرة عن قطع و

انّه لا يجوز صدور شي ء منها عن ظنّ انّنا إذا سمعنا من أحدهم عليهم السلام حكما فانّا لا نجوّز احتمال كونه خطأ لأنّ اعتقادنا عصمتهم يمنع تجويز الخطأ عليهم و كما انّا لا نجوّز عليهم الخطأ في أحكامهم فهم ايضا لا يجوّزون على أنفسهم الخطأ لعلمهم بعصمة أنفسهم سلام إله عليهم. و من هذا يعلم انّهم قاطعون بجمع الأحكام الّتي تصدر عنهم و لا يجوّزون نقيضها كما يجوّزه المجتهدون في

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 88

و على هذا فلا دلالة فيها على طهارة أهل الكتاب التي هي مراد المستدلّين بها بل لعل الأمر بالعكس.

و منها حسنة الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام و انا عنده عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أ يدعونه الى طعامهم؟ قال: امّا انا فلا ادعوه و لا أؤاكله و انّى لا كره ان أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم. [1]

فانّ الظاهر منها هو جواز دعوة المسلم المجوسيّ إلى طعامه و ان كان يكره ذلك و إذا جاز ذلك فاللازم هو طهارة المجوسيّ.

و فيه انّه لا يصحّ التمسك بها أيضا فإنّ فيها شائبة التقيّة بشهادة نفس الرواية و قرينة قوله عليه السلام في آخرها: شيئا تصنعونه في بلادكم فإنّه بمنزلة أن يقول: لو أقول انّه حرام يصير سببا لا ذاك و انجرّ الى بروز الحوادث و توجّه المكاره إليك لانّه شي ء دائر بينكم و رائج في بلادكم تصنعونه كثيرا و انكم تضطرّون إلى المعاشرة معهم و الّا فالحكم الواقعي هو الحرمة.

و منها رواية زكريّا بن إبراهيم قال: دخلت على ابى عبد اللّه عليه السلام فقلت: انّى رجل من أهل الكتاب و انّى أسلمت و بقي أهلي كلّهم

على النّصرانية و انا معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون لحم

______________________________

أحكامهم المستندة إلى ظنونهم و لعلّ نهيه عليه السلام عن أكل طعامهم محمول على الكراهة ان أريد الحبوب و نحوها.

و يمكن جعل قوله: لا تأكله مرّتين للإشعار بالتحريم كما هو ظاهر التأكيد و يكون قوله بعد ذلك:

لا تأكله و لا تتركه محمولا على التقيّة بعد حصول التنبيه و الاشعار بالتحريم، هذا ان أريد بطعامهم اللحوم و ما باشروه برطوبة، و يمكن تخصيص الطعام بما عدا اللحوم و نحوها و يؤيده تعليله عليه السلام باشتمال آنيتهم على الخمر و لحم الخنزير. انتهى كلامه رفع مقامه.

[1]. الحدائق ج 5 ص 170، و في الوسائل ج 16 ب 53 من الأطعمة المحرمة: الكاهلي قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوم مسلمين يأكلون و حضرهم مجوسي أ يدعونه الى طعامهم؟

فقال امّا انا فلا اواكل المجوسي و اكره ان أحرّم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 89

الخنزير؟ فقلت: لا و لكنّهم يشربون الخمر فقال لي كل معهم و اشرب. «1»

فإنّ الإمام عليه السلام جوّز لزكريّا الأكل و الشرب مع اهله النصرانيّين و كان مبتلى بمعاشرتهم و الأكل من طعامهم و مماسّة آنيتهم و مباشرتها بمجرّد انّهم لا يأكلون لحم الخنزير و هذا يدلّ على طهارة النّصارى و الّا لما كان يجوّز الإمام مؤاكلتهم.

و فيه انّه و ان كانت الرواية تدلّ بحسب الظاهر على طهارة النصارى، حيث انّ زكريّا وحده كان قد أسلم من بين اهله و أسرته و بقي أهله على نصرانيّتهم، و لمّا صرّح هو بأنّهم لا يأكلون لحم الخنزير أجاز الامام الأكل و الشرب معهم.

الّا انّ في الرواية احتمالات اخرى:

أحدها: ان يكون تجويز الامام لأجل اضطرار زكريّا الى معاشرتهم و مزاولتهم و الأكل معهم و من آنيتهم كما لعلّه يظهر ذلك من شرائط حاله و شأنه الخاصّ به حيث انّه كان قد نشأ في رهط نصرانيين و أسلم وحده و بنفسه فهو عرفا في ظروف خاصة و شرائط استثنائية و اضطراريّة.

و يؤيّد ذلك، الخبر الذي رواه علىّ بن جعفر عن أخيه و سيأتي ذكره إنشاء اللّه تعالى فانتظر.

ثانيها: ان يكون تجويز الامام لأجل مصلحة أهمّ مثل مصلحة ائتلاف قلوب اهله و عائلته و توجيههم إلى الإسلام كما يؤيّد هذا الاحتمال ما نقل من انّ امّه قد أسلمت لما رأت من ابنها ما حيّرها و أعجبها و استحسنته من محامد الأخلاق و السيرة المحمودة و المواقف المشكورة و مناهج الصلاح و السداد و المداراة معها و انّه يبالغ في الإحسان إليها و يخدمها خدمة صادقة، تلك الصفات الكريمة التي اكتسبها في ظلال الإسلام.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 16 ب 54 من أبواب الأطعمة المحرّمة ح 5.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 90

ثالثها: ان يكون حكم الامام بذلك لأجل انّه عليه السلام كان عالما بأنّه لا يبتلى بأكل النجس و لا يصادف له ذلك لانتحال أهله الإسلام و إقبالهم الى دين اللّه قبل مصادفة الأكل معهم. فمع وجود هذه الاحتمالات كيف يمكن الحكم بطهارتهم بمجرّد تجويزه الأكل معهم؟ و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

ثم انّ في هذه الرواية كلاما من جهة أخرى و ان لم تكن مرتبطة بمسئلتنا، و هي انّ الراوي صرّح بأنّ اهله يشربون الخمر، و مع ذلك أجاز الامام الأكل و الشرب معهم بعد ان قال زكريا بأنّهم

لا يأكلون لحم الخنزير و قد فرّق بين الخمر و الخنزير و هذا يدل على طهارة الخمر.

و يمكن دفع هذا الإشكال بأنّ آنية الخمر غير آنية الطعام فانّ للشراب إناء خاصّا به و للطعام إناء آخر، هذا بالنسبة إلى الإناء.

و امّا بالنسبة إلى الشّفة و نجاستها ففيها انّه لا ملازمة بين نجاسة الخمر و نجاسة الشفة فمن الممكن شرب الخمر بنحو لا يتنجّس خارج الفم و ظاهره.

و ان أبيت إلّا عن دلالة هذه الجملة على طهارته فنقول: انّه قد جوّز ذلك للاضطرار اليه، أو نقول: انّ هذه الرّواية من الروايات الدّالّة على طهارة الخمر و عند معارضتها للأخبار الدّالّة على النجاسة تقدّم الثانية و تطرح ما دلّت على الطهارة.

ثمّ لا يخفى عليك انّ هذه الرواية منقولة في الكافي بتفصيل غير مذكور في هذا النقل فراجع. [1]

______________________________

[1]. في أصول الكافي ج 2 ص 160 عن زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانيا فأسلمت و حججت و دخلت على ابى عبد اللّه عليه السلام فقلت: انّى كنت على النصرانيّة و انى أسلمت، فقال: و أي شي ء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول اللّه عز و جل «مٰا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتٰابُ وَ لَا الْإِيمٰانُ وَ لٰكِنْ جَعَلْنٰاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشٰاءُ» فقال: لقد هداك اللّه، ثم قال: اللهم اهده- ثلاثا- سل عمّا شئت يا بنى

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 91

و منها صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل الذمة و المجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم و لا من طعامهم الذي يطبخون و لا في آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر. «1»

تقريب الاستدلال انّ الامام لم ينه عن مطلق طعامهم بل

عن المطبوخ منه و لا عن استعمال مطلق أوانيهم بل عن التي يشربون فيها الخمر.

و السّر في النهي عن طعامهم المطبوخ عدم تجنّبهم لحم الخنزير فإنّهم يستحلّونه و يأكلونه كثيرا و هذا بنفسه امارة على انّ طعامهم المطبوخ من لحم الخنزير و لا أقلّ من كونه خليطه و مزيجه و امّا النهي عن آنيتهم الّتي يشربون فيها الخمر فهو واضح لا يحتاج الى توجيه و بيان فيعلم انّ مطلق طعامهم و أوانيهم ليس نجسا و حينئذ فلا وجه للحكم بنجاستهم.

و بعبارة اخرى انّ لازم الحكم بنجاستهم الحكم بالتجنّب عن جميع أوانيهم سواء اشربوا فيها الخمر أو الماء كما انّ لازم ذلك التجنّب عن مطلق طعامهم دون خصوص ما يطبخونه فتقييد أوانيهم بالّتي يشربون فيها الخمر و

______________________________

فقلت: انّ ابى و أمّي على النصرانيّة و أهل بيتي، و أمّي مكفوفة البصر فأكون معهم و آكل في آنيتهم؟ فقال يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا و لا يمسّونه، فقال: لا بأس فانظر أمّك فبرّها، فإذا ماتت فلا تكلها الى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها و لا تخبرن أحدا انك أتيتني حتى تأتيني بمنى ان شاء اللّه قال: فأتيته بمنى و الناس حوله كأنّه معلّم صبيان هذا يسأله و هذا يسأله فلمّا قدمت الكوفة ألطفت لأمّي و كنت أطعمها و أفلي ثوبها و رأسها و أخدمها فقالت لي: يا بنىّ ما كنت تصنع بي هذا و أنت على ديني فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفيّة؟

فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا و لكنّه ابن نبىّ فقالت:

يا بنىّ انّ هذا نبيّ انّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا امّه انه

ليس يكون بعد نبيّنا نبىّ و لكنّه ابنه فقالت: يا بنىّ دينك خير دين، أعرضه علىّ فعرضته عليها فدخلت في الإسلام و علّمتها فصلّت الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في اللّيل، فقالت: يا بنيّ أعد علىّ ما علّمتني فأعدته عليها، فأقرّت به و ماتت، فلمّا أصبحت كان المسلمون الذين غسّلوها و كنت أنا الذي صلّيت عليها و نزلت في قبرها.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 92

طعامهم بالذي يطبخونه لا وجه له و حينئذ فالتقييد كاشف عن عدم نجاستهم.

و قد ظهر جوابه ممّا قدّمناه حول هذه الرواية في تقريب الاستدلال بها على النجاسة فراجع و تأمّل فانّ في ما ذكر هناك غنى و كفاية عن إعادته في هذا المقام.

و منها صحيحة علىّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام و قد سأله عن اليهودي و النصراني يدخل يده في الماء أ يتوضّأ منه للصلاة؟ قال: لا الّا ان يضطرّ اليه. «1»

وجه الاستدلال بها انّ الامام عليه السلام أجاز الوضوء بالماء الذي أدخل النصراني يده فيه، فيعلم انّ الماء كان طاهرا، و طهارة الماء تدلّ على طهارة النصراني، و هذا هو المطلوب.

و امّا قيد الاضطرار فهو لعدم الداعي للمسلم في التوضّي من هذا الماء اختيارا و ان لم يكن نجسا بل لأجل استقذاره، و امّا في حال الاضطرار فلا يبالي بذلك، و الّا فالاضطرار لا يصيّر النجس طاهرا صالحا للوضوء منه.

و فيه أوّلا: من اين ثبت كون المفروض الماء القليل؟ فمن الممكن كون المفروض و مورد السؤال إدخال اليهودي أو النصراني يده في الماء الكثير، و من المعلوم

انّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شي ء.

ان قلت انّ الرواية مطلقة شاملة للماء القليل ايضا و هذا كاف في إثبات طهارتهم.

نقول: يجب تقييد الإطلاق- لو كان إطلاق- بنجاسة سؤر الكافر أو ما باشروه بالرطوبة الّتي استفدناها من الأدلّة.

و ثانيا: سلّمنا انّ الرواية متعرّضة للماء القليل امّا اختصاصا و امّا إطلاقا

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 93

لكن مع ذلك فالحكم بطهارة هذا الماء مع انّ اليهودي مثلا ادخل يده فيه لا يدلّ على طهارته حيث انّه يمكن ان يكون هو نجسا و مع ذلك يكون الماء المزبور طاهرا بان يقال بعدم انفعال الماء القليل كما هو مذهب ابن الجنيد نعم هو خلاف نظرنا و مبنانا.

ان قلت: انّ هذا لا يساعده اشتراط جواز الوضوء منه بالاضطرار فإنّه لو كان الماء طاهرا- لعدم انفعاله بملاقات يد الكافر فاللّازم هو الحكم بجواز الوضوء منه اختيارا.

نقول: لا منافاة أصلا فإنّ هذا الماء قذر بسبب إدخال اليهوديّ يده فيه و ان لم يكن نجسا- لكن في حال الضرورة لا بأس أصلا- كما انّه لا يجوز التوضّؤ بماء الاستنجاء و الحال انّه طاهر مع الشرائط.

و ثالثا: انّه يمكن حمل هذا الخبر ايضا كسابقه على التقيّة [1] فعلى هذا لا دلالة فيه على طهارة أهل الكتاب.

و يضاف الى ذلك كلّه انّ القائلين بالنجاسة أيضا يتمسّكون بهذه الرواية و يستدلّون بها و يقولون انّها تدلّ على النجاسة حيث انّه لم يجوّز الامام استعمال هذا الماء غاية الأمر اختصاص لزوم الاجتناب بحال الاختيار و امّا في حال

______________________________

[1]. أقول: و قد حمله كذلك شيخنا البهائي قدّس سرّه في الحبل المتين

ص 99 فإنّه بعد ان اعترف بأنّ جواز الوضوء بسؤرهم إذا اضطرّ اليه دليل على طهارتهم قال: و ظنيّ انّه لا يبعد ان يقال ان الاضطرار يجوز ان يكون كناية عن التقيّة فإنّ المخالفين من العامّة على طهارتهم انتهى و قال في مشرق الشمسين في ذيل الخبر: قوله عليه السلام في آخر الحديث: الّا ان يضطرّ اليه ممّا يتأيّد به القول بعدم نجاسة اليهود و النصارى و بعض الأصحاب حمل الوضوء في الحديث على ازالة الوسخ. و لا يخفى ان ذكر الصلاة ينافيه و بعضهم حمل على تسويغ الاستعمال عند الضرورة على الاستعمال في غير الطهارة فالمعنى الّا ان يضطرّ إليه في غير الطهارة و هو بعيد. ثم قال: و الاولى حمل الاضطرار على ما إذا دعت التقية إلى استعماله و عدم التحرّز عنه كما يقع كثيرا لأصحابنا الإمامية في بلاد المخالفين فإنّهم قائلون بطهارة أهل الكتاب انتهى كلامه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 94

الاضطرار فلا يلزم الاجتناب عنه، الى غير ذلك من الروايات. [1]

كلمة حول الرأي المختار

قد علمت انّ الاخبار التي استدلّ بها على طهارة أهل الكتاب حملناها امّا على التقيّة، و امّا على الاضطرار، و امّا على غير ذلك، و السبب في ذلك الذي هو حجّة لي بيني و بين اللّه و قد حملني على ان ادع هذه الروايات و اتركها هو انّها مع صحّة إسناد قسم منها غير معمول بها، فترى أنّها امّا صحيحة و امّا موثّقة، و قد رواها الفحول و جهابذة العلماء الأكابر مثل الكليني و الصّدوق و الشيخ الطوسي رضوان اللّه عليهم أجمعين الذين هم في الحقيقة حلقات الترابط بين لاحق الأمّة الإسلامية و سابقها و الوسائط بين الشيعة و

أئمتهم المعصومين عليهم السلام و قد أودعوا هذه الاخبار في كتبهم و وصلت إلينا بواسطتهم، و مع تمام هذه الجهات و شدّة اهتمامهم بالتعبّد بما وصل إليهم، و وقع بأيديهم، من الأئمة الطاهرين، فهم

______________________________

[1]. أقول: كرواية عيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مؤاكلة اليهوديّ و النصرانيّ فقال: لا بأس إذا كان من طعامك. و سالته عن مؤاكلة المجوسي فقال:

إذا توضّأ فلا بأس. التهذيب ج 9 ص 88 قال الفاضل المقداد رضوان اللّه عليه: و ليس فيها حجّة على الطهارة و الّا لم يحتج الى قوله: (إذا كان من طعامك) و يمكن حملها على طعام جامد.

و المراد بالتوضؤ كما قال هو ايضا هو غسل يده راجع التنقيح الرائع ج 4 ص 53 و قال المحقق في المختصر النافع: و في رواية إذا اضطرّ إلى مؤاكلته- اى الذّمي- أمره بغسل يده، و هي متروكة انتهى.

و قال الفاضل السيوري في شرحه: لم نقف على رواية بطهارة الذّمي، فإن وجد شي ء فهو محمول على التقيّة، و امّا روايات النجاسة فكثيرة و لذلك جعلها هي الأشهر خصوصا مع موافقتها للكتاب في قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ و أهل الذّمة مشركون لما تقدّم في النكاح انتهى راجع التنقيح ج 4 ص 53.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 95

بأنفسهم تركوا هذه الروايات، و أعرضوا عنها، و لم يعملوا بها، و هذا بنفسه امارة إجمالية كاشفة عن خلل فيها، و هو العلّة الوحيدة في ضعف تلك الاخبار و أقوى حجّة عليه، فانّ الخبر كلّما كان صريحا من حيث الدلالة و صحيحا من حيث السند فهو يضعف و يسقط بسبب الاعراض عنه، لا

سيّما هذا الإعراض، اى أعراض ناقليه و رواته عنه، فإنّه يوجب الوهن فيه جدّا، و ما نحن فيه كذلك، فإنّها مع كونها صريحة الدلالة، صحيحة السند، لم يعمل ناقلوها بها و نحن نفهم انّ عدم اعتنائهم بها و افتاءهم بالطهارة كان لأجل نكتة ثابتة و جهة محقّقة عندهم، حملتهم على الإفتاء بخلافها كعلمهم بصدورها تقيّة، أو وجود قرينة في مقام الدلالة أو غير ذلك من الأمور و النكات.

و الحاصل: انّها صدرت عنهم عليهم السلام لمصلحة من المصالح فهي ساقطة عن الحجيّة و حينئذ تبقى أخبار النجاسة سالمة بلا معارض، فيعمل بها، و قد ثبت انّ أدلّة القائل بالطهارة أصلا و آية و رواية لم تنفع شيئا و لا دلالة أصلا و انّ كلّ هذه الآثار لا تثبت المقصود الذي يحاوله هذا القائل.

كلمة من بعض الأجلّاء

بقي الكلام هنا في ما أورده بعض المعاصرين- عند التعرّض للروايات التي يستظهر منها الطهارة و الإيراد عليها- بقوله: نعم تشكل موثّقة عمّار المتضمّنة تغسيل النصراني للمسلم إذا لم يوجد مسلم أو مسلمة ذات رحم و تغسيل النصرانية للمسلمة كذلك فانّ البناء على وجوب التغسيل بالماء النجس بعيد جدّا لانّه يزيد الميّت نجاسة، و حمله على التغسيل بالكثير أبعد، و لأجل ذلك ردّ الموثّقة المذكورة بعضهم لمخالفتها للقواعد لكنّ المشهور بين القدماء

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 96

و المتأخرين العمل بها. «1»

و فيه انّ عدم تمشّى قصد القربة من النصرانيّ الذي يغسّل المسلم لكونه نصرانيا غير معتقد باللّه و بما أوجب اللّه على المسلمين. و كذا عدم حصول قرب الى اللّه للميّت المسلم الذي غسّله النصراني بل و عدم إمكان حصول القربة لكون ماء الغسل نجسا، كاشف عن عدم كون هذا

الغسل غسلا حقيقيّا واقعيّا، بل هو صورة الغسل، و المأمور به هو الغسل (بالفتح) و الغمس في الماء مثلا دفعا للسموم الخارجة من بدن الميّت و لان ينظف و يبرأ من أدناس أمراضه، و ما اصابه من صنوف علله، تحفّظا من سراية الأذى و الأمراض إلى الناس. [1]

ثمّ انّ له اشكالا آخر ايضا نتعرّض له قال: ان الأقوى ما عليه الأصحاب من النجاسة لو لا ما يقتضيه النظر في روايات نكاح الكتابية متعة أو مطلقا فإنّها على كثرتها و اشتهارها و عمل الأصحاب بها لم تتعرّض للتنبيه على نجاستها فانّ الملابسات و الملامسات التي تكون بين الزوج و الزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة و لم يتعرّض في تلك النصوص للإشارة الى ذلك. «2»

و يرد عليه أوّلا: انّ تحفّظ الزوج نفسه من تأثّره بنجاستها أمر ممكن.

و ثانيا: انّ مباشرة الرجل المسلم زوجته المسلمة أيضا ربّما تكون ملازمة للنجاسة عرفا و مع ذلك لم تتعرض اخبار النكاح و المضاجعة لذكر ذلك، و للزوم التطهير، فهل هذا دليل على عدم حصول النّجاسة أو عدم لزوم التطهير؟

و الجواب في المقامين انّ لزوم تطهير الثوب و البدن إذا تأثّرا بالنجاسة

______________________________

[1]. هكذا أفاد دام ظلّه هنا لكنّه قد ذكر في بحث غسل الأموات وجوها أخر كما قرّرناها في كتابنا:

مناهل الحياة في أحكام الأموات و لعلّه يطبع إنشاء اللّه تعالى.

______________________________

(1). مستمسك العروة الوثقى ج 1 ص 374، و امّا موثّقة عمار فراجع الوسائل ج 2 ب 19 من أبواب غسل الميّت ح 1 و جامع أحاديث الشيعة ب 18 من أبواب التغسيل ح 49

(2). مستمسك العروة الوثقى ج 1 ص 377.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 97

مذكور في موضعه

و موكول الى محلّه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 99

الكلام حول نجاسة أولاد الكفار و عدمها

اشارة

قد عرفت من ابحاثنا الماضية أنّه لا مناص عن القول بنجاسة الكفّار مطلقا و ان كانوا كتابيّين فحينئذ يتوجّه السؤال عن انّه هل يلحق بهم أولادهم قبل ان يبلغوا أو يتوقّف الحكم بنجاستهم على كفرهم المتوقّف على البلوغ و توجّه التكليف؟ و بعبارة أخرى هل الحكم في أولاد الكفّار تبعيّة الآباء في النجاسة أم لا؟

قال الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني رضوان اللّه عليهما: ظاهر كلام جماعة من الأصحاب انّ ولد الكافرين يتبعهما في النجاسة الذاتية بغير خلاف لأنّهم ذكروا الحكم جازمين به غير متعرضين لبيان دليله كما هو الشأن في المسائل الّتي لا مجال للاحتمال فيها و ممّن ذكر الحكم كذلك، العلّامة في التذكرة و لكنّه في النهاية أشار الى نوع خلاف أو احتمال فيه، فقال: الأقرب

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 100

في أولاد الكفّار التبعيّة لهم. «1»

أقول: انّ تعبير النهاية بلفظ: (الأقرب) مشعر بوجود الخلاف، و يستفاد منه انّه بنفسه احتمل عدم الإلحاق، فحينئذ لو ثبت كون المسئلة اجماعيّة و انّه لم يكن الإجماع مستندا الى ما يصلح ان يكون مستندا له و دليلا عليه فالحكم قطعيّ لا يبقى معه مجال للبحث، و امّا لو لم يكن إجماع أصلا أو كان و لكنّه كان مستندا الى ما يستدلّ به في المقام فهناك لا بدّ من التمسّك بأدلّة أخرى في إثبات المطلوب امّا على فرض عدم الإجماع فالأمر واضح و امّا على الفرض الأخير فلانّ الإجماع على ذلك ليس دليلا مستقلّا في قبال مستنده فاللّازم فعلا ذكر ما يقال و يستدلّ به للحكم بالتبعيّة و الإلحاق و انّ ولد الكافرين نجس

كابويه و هي أمور:

الأوّل: انّه قد تولّد و نشأ من النجس و المتولّد من النجس و المتكوّن منه نجس و بتقريب آخر ذكره بعض العلماء: انّه حيوان متولّد من حيوانين نجسين فيثبت له حكمهما كالمتولّد من الكلب و الخنزير.

و فيه انّ مجرّد نش ء شي ء من النجس و التولّد منه لا يوجب كونه نجسا و لا دليل على ذلك ما لم يصدق عليه عنوان من العناوين النجسة، و لذا لا يحكمون على الدودة المتولّدة من النجاسة و المتكوّنة منها بالنجاسة، بل النجاسة دائرة مدار صدق عنوان من عناوين النجاسات- على المتولّد أو المتكوّن- عرفا فالمتولّد من الكلب و الشاة أو من الخنزير و الشاة ليس نجسا لو لم يصدق عليه الكلب أو الخنزير، و مجرّد عدم صدق عنوان الكلب أو الخنزير كاف في الحكم، بالطهارة، و على هذا فالحكم بالنجاسة فيما نحن فيه موقوف على صدق عنوان الكافر عليه و هو غير معلوم لو لم يكن معلوم العدم.

______________________________

(1). معالم الدين في الفقه ص 259.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 101

الثّاني: و هو الذي تمسّك به بعض العلماء [1] و اعتمد عليه- انّ نجاسة أولاد الكفّار ارتكازيّ عند أهل الشرع، حيث انّهم يتعدّون من نجاسة الأبوين ذاتا الى المتولّد منهما، فهو شي ء مركوز في أذهانهم مثل حكمهم بنجاسة المتولّد من الكلبين ارتكازا.

و فيه انّه لو سلّم ذلك فإنّما هو فيما إذا كانت النجاسة ذاتيّة في الأصل غير قابلة الانفكاك عنه، كالكلب فإنّ النجاسة لا تنفك عنه ابدا و في أيّ شرط من الشرائط و حال من الأحوال، فإذا المتولّد من كلبين محكوم بالنجاسة لارتكاز أهل الشرع بكونه نجسا، و امّا إذا لم يكن الأمر كذلك بل

كانت النجاسة في الأصل لجهة عارضة تدور معها نفيا و إثباتا كالكفر القابل للتغيّر و التبدّل- و ما دامت هذه الصفة الخبيثة موجودة يحكم بالنجاسة و تزول بزوال الوصف العنواني فهنا لا ارتكاز على نجاسة المتولّد منه، لعدم كونه واجدا للصفة، و عدم صدق الكافر عليه، بل و عدم صلاحيّته لذلك.

و الحاصل: انّ الكفر علّة تقييديّة لا تعليليّة و لذا لا يمكن ادّعاء الارتكاز في نجاسة المتولّد من الكافر كما لا يصحّ أيضا في كلّ مورد كانت النجاسة في الأصل لأجل فعل من الأفعال و صفة من الصفات.

الثّالث: قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. [2] فانّ الظاهر منه إلحاق ذريّة كلّ به.

______________________________

[1]. أقول: قال علم التحقيق و التّقى الشيخ المرتضى في طهارته ص 306:. بل هذا الوجه هو العمدة.

[2]. سورة الطور الآية 31 أقول: و في الكافي باب الأطفال من كتاب الجنائز: و في حديث آخر امّا أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم و أولاد المشركين يلحقون بآبائهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.

ثم لا يخفى انّ الشيخ قدّس سرّه استدلّ بالآية الكريمة في المبسوط ج 3 ص 341 قال: اعتبار إسلام الطفل بشيئين أحدهما يعتبر بنفسه و الثاني يعتبر بغيره. و امّا اعتباره بغيره فعلى ثلاثة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 102

و فيه انّ الظاهر كون الآية الكريمة أجنبيّة عمّا نحن بصدده، فإنّها ناظرة إلى النشأة الآخرة و ما بعد الموت، و امّا إلحاق أولاد الكافرين لهم ما داموا في دار الدنيا في جميع الأحكام و منها النجاسة فهو مشكل جدّا و لا يستفاد من

الآية. [1]

الرّابع: خبر حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب و ظهر عليهم المسلمون بعد ذلك قال:

إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار و هم أحرار و ماله و متاعه و رقيقه له. «1»

و هذا الخبر يدلّ بمنطوقه على انّ الصغار يحكم عليهم بحكم الإسلام بمجرّد حدوث الإسلام و تحقّقه لوالدهم، و لازم ذلك بمقتضى المفهوم كون الأولاد الصغار محكوما عليهم بالكفر ايضا بسبب كفر والدهم لانّه لا واسطة بين الإسلام و الكفر فإذا انتفى الإسلام فلا بدّ و ان يثبت الكفر.

و يرد عليه انّه لا دلالة لهذا الخبر ايضا على نجاسة أطفالهم، فإن المستفاد منه انّ كفر الوالد مسوّغ لاسترقاق الأطفال أيضا مضافا الى جواز استرقاق الوالد بنفسه و امّا النجاسة فهي أمر آخر غير مرتبط بذلك فإنّها مترتّبة على الكفر. و الطفل المتولّد من كافرين ليس بكافر بل لا يصلح لذلك.

و ما ذكره المستدلّ من انّه إذا انتفى حكم الإسلام في الولد يثبت عليه حكم الكفر و انّ مجرّد عدم كونه مسلما كاف في الحكم بكفره.

______________________________

أضرب أحدها الأبوان فاعتباره بالوالدين إذا كان أبواه مسلمين فإنّه يحكم بإسلامه لقوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأخبر تعالى انّ أيمان الذريّة يلحق بإيمان أبويه و هكذا ان كان أبواه كافرين فإنّه يحكم بكفر الأولاد و الأطفال تبعا لهما انتهى كلامه.

[1]. أقول: و قد يستدلّ بقوله تعالى حكاية عن نوح وَ لٰا يَلِدُوا إِلّٰا فٰاجِراً كَفّٰاراً، و ان لم يتعرّض له سيّدنا الأستاد الأعظم مدّ ظله. و الجواب عنه هو ما ذكره العلّامة أعلى اللّه مقامه في شرحه على التجريد

بقوله: انّه مجاز و التقدير انّهم يصيرون كذلك لا حال طفوليّتهم.

______________________________

(1). وسائل الشيعة كتاب الجهاد ب 43 ح 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 103

ففيه انّه غير قابل للإسلام و الكفر لعدم شأنيّته و صلوحه لذلك مع كونه صغيرا- كعدم صلاحيّة الجدار لهما و لذا لا يصحّ إطلاق الكافر عليه ايضا و ان أمكن ان يقال انّه يصلح للإسلام لمكان محبوبيّته الذاتيّة.

الخامس: صحيح عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل ان يبلغوا الحنث؟ قال: كفّار و اللّه اعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم. [1]

و الجواب انّ من المعلوم كما ذكرنا آنفا عدم صدق الكافر بالمعنى الحقيقي على هذا الولد المتكوّن من الكافر، فانّ معناه هو المنكر للّه و لرسوله مثلا، و الصبيّ غير صالح لذلك، الى ان يبلغ، و لا أقلّ من ان يصير مميزا، فالمراد بالكفر آثاره. و الظاهر انّه لا دلالة له على إلحاقهم بآبائهم في النجاسة و انّما هو في مقام بيان حالهم بعد الموت و لحوقهم بهم في النشأة الآخرة فيعامل مع أولاد المشركين فيها معاملة المشركين أنفسهم، باعتبار انّهم لو بقوا في الدنيا لصاروا كفّارا فيدخلون مداخل آبائهم.

و يمكن ان يقال: انّ السؤال مطلق يشمل الدنيا و الآخرة، و لا وجه لاختصاصه بها فيكون الولد في حكم الكافر في جميع الأحكام و منها النجاسة.

و الجواب عن ذلك انّ للسؤال- بلحاظ قول السائل: (يموتون قبل البلوغ) و بلحاظ قول الامام: (اللّه اعلم بما كانوا عاملين) الذي معناه انّ اللّه يعلم انّهم لو عاشوا في الدنيا ما ذا يصنعون- قدرا متيقّنا و هو السؤال عن الآخرة فإذا كان كذلك فينصرف إليها.

______________________________

[1].

من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491 باب حال من يموت من أطفال المشركين ح 2 (أقول: قال صاحب الحدائق: يمكن الاستدلال للقول المشهور من تبعيّة ولد الكافر لأبويه في الكفر بما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن جعفر بن بشير عن عبد اللّه بن سنان.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 104

السّادس: ما رواه وهب بن وهب عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام قال: قال علىّ عليه السلام: أولاد المشركين مع آبائهم في النّار و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنّة. «1»

و فيه انّه و ان كان دالّا على دخوله النار الّا انّه لا دلالة له على نجاستهم و لا ملازمة بينهما عقلا كما انّه لم يرد دليل يدلّ على انّ كلّ من دخل النار فهو نجس و من المعلوم انّ الفسّاق يدخلون جهنّم و يعذّبون على ما فعلوه من المعاصي مع انهم ليسوا نجسا، و ترى انّ اللّه تعالى يقول في المنافقين إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ مع انّ لا يحكم بنجاسة المنافقين بل يعاملون معاملة الطهارة.

السابع النبويّ المشهور: كلّ مولود يولد على الفطرة و أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه حتّى يعرب عنه لسانه فامّا شاكرا و امّا كفورا. [1]

تقريب الاستدلال انّ الولد- بمقتضى هذا الخبر- بحسب أصل خلقته و سذاجة فطرته عار عن شوائب الشرك و الكفر فهو من هذه الحيثيّة موحّد و محكوم عليه بحكم الإسلام، و انّما يلحقه حكم الكفر تبعا لوالديه اليهوديّين أو النصرانيّين أو المجوسيّين فالأبوان صارا سببا لكون الطفل يهوديا مثلا اى مشمولا لحكمه، و المراد من قوله: حتى يعرب إلخ انّ هذه التبعيّة باقية ثابتة إلى

______________________________

[1]. تذكرة الفقهاء

ج 2 كتاب اللقطة ص 274. و رواه الشهيد في لقطة الدروس ص 299 الّا انّه ضبط كذا: حتى يكون أبواه. و المجلسيّ التقيّ في روضة المتّقين ج 1 ص 60 و ضبطه: و لكن أبواه اللذان إلخ كما انه في الكافي اقتصر على نقل: كل مولود يولد على الفطرة، فراجع ج 2 ص 13 من طبعة تهران و في الوسائل ج 11 ص 96 ح 3 ب 48 من جهاد العدوّ عن ابى عبد اللّه عليه السلام انه قال: ما من مولود يولد الّا على الفطرة فأبواه اللذان يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه.

و في السفينة ج 2 ص 373 قال النبي صلى إله عليه و آله كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه و ينصّرانه.

______________________________

(1). من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491. ح 1

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 105

ان يبلغ فيظهر الإسلام أو الكفر.

أقول: لا يخفى انّه كما تمسّك به القائل بالإلحاق كذلك تمسّك به من يقول بطهارة ولد الكافر و عدم تبعيّته له في النجاسة- غاية الأمر انّ الأوّل تمسّك بذيله و الثاني بصدره- مقرّرا انّه ولد على فطرة الإسلام فهو محكوم عليه بحكمه، هذا.

و الحقّ انّه لا يصحّ و لا يتمّ الاستدلال بالحديث الشريف مطلقا- لا للتبعيّة و لا لعدمها- و لا دلالة فيه على اىّ واحد من الأمرين فإنّه غير مرتبط بالمقام.

و لتوضيح الكلام و إثبات ما ذكرناه في المقام ينبغي البحث في معناه فنقول: اختلفوا في معنى الحديث فقال علم الهدى الشريف المرتضى قدّس سرّه: الفطرة ههنا الدين و تكون (على) بمعنى اللّام فكأنّه قال: كلّ مولود يولد للدين و من أجل الدين لانّ اللّه

تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلّفين الّا ليعبده فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ. [1]

و لكنّ الذي أفاده قدّس سرّه خلاف الظاهر فانّ الظاهر من معناه انّ اللّه جعل في كلّ مولود استعداد التوجّه الى اللّه الذي لا يزول و لا يزال و اقتضاء إقباله و توجّهه الى المبدء المتعال فالإنسان يتولّد و الحال انّه جعل بحسب التكوين بحيث لو لا الموانع و الحواجز الخارجيّة يتوجه في القابل من حياته و المستقبل القريب من عمره الى ربّه الذي فطره و أنشأه و يهتدى بنور هداه و فطرته الى اللّه

______________________________

[1]. أمالي المرتضى ج 2 ص 83 ثم لا يخفى عليك انّه ذكر في معنى الحديث و أحدا من الوجهين و لم يذكر سيدنا الأستاد دام ظله الأخير منهما و هذه عبارة السيد: و الوجه الآخر في تأويل الفطرة ان يكون المراد بها الخلقة و تكون لفظة (على) على ظاهرها لم يرد به غيرها و يكون المعنى كلّ مولود يولد على الخلقة الدّالّة على وحدانية اللّه تعالى و عبادته و الايمان به، الى ان قال: فكأنّه عليه السلام قال: كلّ مخلوق و مولود فهو يدلّ بخلقه و صورته على عبادة اللّه تعالى و ان عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا و هذا الوجه يحتم له ايضا قوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 106

سبحانه لما يراه من الآيات و البيّنات قال اللّه تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ «1» الّا انّه يوجد صوارف و موانع و منها البيئة الفاسدة و منها الأبوان المنحرفان عن اللّه

السالكان سبيل الشيطان المعتنقان لليهوديّة أو النصرانية. فيتهوّد أو يتنصّر لنشئه في بيئة يهوديّة أو نصرانيّة فانّ الأولاد ينشئون في الغالب على مذاهب آبائهم و يألفون أديانهم و عقائدهم صحيحة كانت أم فاسدة فيختارون الضلالة بدلا من الحق في ما إذا كانت الآباء و الأمّهات من أهل الضلال.

و على الجملة فكلام النبي الأمين صلى اللّه عليه و آله أخبار في الحقيقة عن كون الإنسان ذا استعداد قوىّ و القابلية العميقة و انّ فيه شأنيّة التوحيد، لا ان يكون في مقام الإلحاق و التنزيل، و من الممكن عدم ترتّب حكم على هذه القابلية و الاستعداد نعم إذا صار مكلّفا و رجع عمّا هو مقتضى فطرته و اعتنق اليهودية أو النصرانية مثلا فهناك يكون كافرا نجسا لانّه يصدق عليه اليهوديّ أو النصرانيّ جدّا.

الأخبار المعارضة

قد علمت انّ الروايات التي استدلّ بها على تبعيّة أولاد الكفّار لهم لم تكن دالة على ذلك فهنا نقول: أضف الى ذلك انّها معارضة بأخبار أخر.

و منها: قال أبو عبد اللّه عليه السلام: ثلاثة يحتج عليهم الأبكم و الطفل و من مات في الفترة فترفع لهم نار فيقال لهم: ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا و

______________________________

(1). سورة الروم الآية 30

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 107

سلاما و من ابى قال تبارك و تعالى هذا قد أمرتكم فعصيتمونى. «1»

تدلّ على اختبار الأطفال يوم القيامة بالنار، و الطفل مطلق شامل لولد المسلم و الكافر، و على هذا فأولاد الكفّار ايضا يختبرون، رغما لما ذكروه من لحوقهم بآبائهم.

و منها عن سهل عن غير واحد رفعوه انّه سئل عن الأطفال فقال إذا كان يوم القيامة جمعهم اللّه و أجّج لهم نارا و أمرهم أن يطرحوا أنفسهم

فيها فمن كان في علم اللّه عز و جل انّه سعيد رمى بنفسه فيها و كانت عليه بردا و سلاما و من كان في علمه انّه شقيّ امتنع فيأمر اللّه بهم الى النار فيقولون يا ربّ تأمر بنا الى النار و لم يجر علينا القلم؟ فيقول الجبّار قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني فكيف و لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم؟ «2» و دلالة هذه ايضا ظاهرة، و مجرّد امتناع الأطفال عن دخول النار بأمر اللّه تعالى يوجب- بمقتضى هذه الرواية- دخولهم في النار.

لا يقال: كيف يصحّ دخولهم في جهنّم و خلودهم في النار ابدا لامتناع أمر واحد و مخالفة واحدة له سبحانه؟! لأنّا نقول: هذا هو عين الإشكال الذي يذكر في الكافرين أنفسهم فيقال كيف يمكن خلودهم في النّار أبد الآبدين لعصيان سبعين سنة أو أقلّ أو أكثر من ذلك؟

و الجواب في المقامين واحد، و هو انّ اللّه تعالى يعلم انّه لو بقي ابدا الآباد لكان مصرا على معاصي اللّه و مقيما على مخالفته متوغّلا في الفواحش

______________________________

(1) الكافي ج 3 باب الأطفال ص 249 الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ص 100

(2) الكافي ج 3 ب الأطفال ح 2 ص 248 الوافي ج 3 ص 100 من أبواب ما بعد الموت. الى غيرهما من الروايات الواردة في التأجيج لكن الأستاذ الأكبر مدّ ظلّه اكتفى بذكر هذين الخبرين فراجع الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ب 112 و كذا الخصال باب السبعة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 108

و المنكرات. [1] و تمام البحث في علم الكلام.

ثمّ انّ الاخبار الواردة في الأطفال من مشكلات الاخبار و معضلاتها فترى انّ بعضا منها صريحة في كونهم

تابعين لآبائهم و قسما منها المذكور آنفا صريحة في الامتحان و التأجيج و عرض النار عليهم فمن رمى بنفسه فيها فهو من أهل الجنّة و من ابى عن ذلك فهو من أهل النار. و بين القسمين بحسب الظاهر كمال المنافرة و المخالفة و لذا تصدّى العلماء للجمع بينهما.

فقال المحدّث الكاشاني رضوان اللّه عليه: دخول الأطفال مداخل آبائهم غير مستلزم لان يكونوا معذّبين بعذاب الآباء و كذلك نقول في أطفال المؤمنين و هذا في البرزخ و امّا في القيامة فيمتحن بالنار. انتهى.

و حاصل كلامه انّ اخبار اللحوق متعرّضة لحالهم في البرزخ بخلاف اخبار التأجيج فإنّها متعرّضة لحالهم في يوم القيامة.

و فيه انّ هذا الحمل خلاف ظاهر قوله عليه السلام في رواية عبد اللّه بن سنان في شأن أطفال المشركين: (كفّار يدخلون مداخل آبائهم) حيث صرّح بكونهم كفّارا. «1»

و قال المحدّث البحراني قدّس سرّه: و الجمع بينهما- يعني خبري عبد اللّه بن سنان و وهب بن وهب- و بين ما ذكر من اخبار تأجيج النار ممكن بأحد وجهين: امّا بحمل أخبار تأجيج النار على انّ الذين يدخلون النار و يطيعون هم أولاد المؤمنين و الذين يمتنعون هم أولاد الكفّار و المشركين و حينئذ فيلحق كلّ من الفريقين بالآباء في الجنّة أو النّار بعد الامتحان المذكور و امّا بحمل أخبار

______________________________

[1] أقول: يؤيّد ذلك ما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله من انّه إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة القاتل و المقتول في النار قيل يا رسول اللّه القاتل فما بال المقتول؟ قال لأنّه أراد قتلا.

التهذيب ج 6 ص 174 ح 25.

______________________________

(1). الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ص 101

نتائج الأفكار في نجاسة

الكفار، ص: 109

تأجيج النار على غير أطفال المؤمنين و الكفّار بناء على ما ثبت بالأخبار الصحيحة من تقسيم الناس الى مؤمن و مسلم و كافر فأهل الوعدين و هم المؤمنون و الكفّار لا يقفون في الحساب و لا تنشر لهم الدواوين و لا تنصب لهم الموازين و انّما يساقون بعد البعث إلى الجنّة ان كانوا مؤمنين و النار ان كانوا كافرين و هذان الفريقان يلحق بهم أولاهم في الجنّة و النار كما صرّحت به تلك الاخبار و امّا المسلمون و هم أهل المحشر الذين يقفون في الحساب و تنشر لهم الدّواوين و تنصب لهم الموازين فهؤلاء الذين تأجّج لأولادهم النار. [1]

و نحن نقول: انّ هذه المطالب متعلّقة بالآخرة و عالم الغيب الذي له أسرار عظيمة و جريانات خافية علينا و لا علم لنا بمعاملة اللّه خلقه و لا بما يقع في تلك النشأة قال اللّه تعالى وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّٰا قَلِيلًا «1» نسئل اللّه ان يجعل عواقب أمورنا خيرا، و نعم ما قاله بعض الفقهاء- بل هو حقّ الكلام- من انّ البحث في هذه الأمور ليس من شأن الفقيه من حيث انّه فقيه، بل هو مربوط بالمتكلمين، لأنّهم يبحثون- في علم الكلام- في كيفيّة العقوبة و المثوبة و أشباه ذلك فعدم تعرّضنا لذلك انسب و إيكال هذه المطالب إليهم أولى.

و قد تلخّص ممّا ذكرنا انّه لا يمكن إثبات الحكم الظاهري كالنجاسة بهذه الأخبار.

______________________________

[1]. الحدائق الناظرة ج 5 ص 199 أقول: الأولى ما ذكره السيّد الشبّر من حمل الأخبار الدالة على تعذيب الأطفال و إلحاقهم بآبائهم على التقيّة لذهاب جماعة من حشويّة العامّة إلى أنهم يلحقون بآبائهم كما انّ المشهورين بين أصحابنا المتكلّمين

انّهم لا يدخلون النار. راجع مصابيح الأنوار، ج 1 ص 286.

______________________________

(1). سورة الإسراء الآية 85

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 110

الكلام في استصحاب النجاسة

استدلّ بعضهم لإثبات نجاسة أولاد الكفّار و إلحاقهم بهم بالاستصحاب، فانّ الولد كان في السابق في وقت نجسا فهو في الحال ايضا كذلك.

و الجواب انّه ما هو الوقت الذي كان نجسا؟ فهل هو قبل و لوج الروح فيه أو غير ذلك؟

فان كان المراد هو الأوّل بأن نقول: انّه قبل و لوج الروح فيه كان نجسا، ففيه:

أوّلا: انّه ليس النجس نجسا في الباطن. [1]

و ثانيا: انّه بعد صيرورته ولدا و طفلا فقد استحال من كونه نطفة و علقة و مضغة و انقلب الموضوع و لم يبق الهاذهية و لا يصدق انّ هذا ذاك حتى يجرى الاستصحاب فإنّه مشروط بانحفاظ الموضوع و بقائه و صدق الهاذويّة في الزمن اللاحق.

______________________________

[1]. لعلّه يرد عليه انّه و ان كان يتمّ انّ النجس ليس نجسا في الباطن الّا انّ ذلك في مورد المسلم و امّا الكافر الذي هو بكامله و بتمام وجوده نجس فلا و ذلك لانّ ممّا حوته الامّ هو الولد و هو من إجرائها.

اللّهم الّا ان يكون مراده دام ظلّه انّ كون الولد جزءا من اجزاء امّه بحيث يكون نجسا كسائر أعضائها الباطنة مشكل و على فرض كونه كذلك فالاستصحاب لا يخلو من اشكال للشك في بقاء الموضوع بعد الولادة و الانفصال، كما و انّ بعض الاعلام قد استشكل في الاستصحاب بهذين الوجهين بل و استشكل فيه الشيخ الأعظم في طهارته فإنّه صرّح بأنّ بالعمدة في الحكم بالنجاسة هو انّ تعدّى نجاسة الأبوين ذاتا الى المتولّد منهما شي ء مركوز في أذهانهم ثم قال: و الّا فيمكن منع

الاستصحاب بمنع جزئية الجنين في بطن امّه للأمّ عند صيرورته مضغة فلا دليل على نجاسته في ذلك الوقت ضرورة عدم صحّة استصحاب نجاسته حال كونها علقة لأنّها من حيث كونها دما انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 111

امّا لو كان المراد غير ذلك كان يقال انّ الكافر بنفسه نجس و رطوباته مطلقا- دما أو غيره- أيضا نجسة و على ذلك فهذا الولد عند تولّده كان متلطّخا برطوبات نجسة فكان نجسا بلا شك في ذلك فحينئذ نشكّ في انّ نجاسته هل كانت عرضيّة حتى تطهر و تزول بالغسل أو ذاتيّة لا ترتفع به فتستصحب النجاسة.

و هذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي الذي وجد الكليّ في ضمن فرد مردّد بين قصير العمر و طويله كالبقّ و الفيل، فإذا شكّ في بقاء الحيوان يقال لو كان الحيوان الموجود طويل العمر فالحيوان اى الجامع و الكلىّ باق بعد و لو كان هو قصيره كالبق، فلا محالة لم يبق الى الآن فهنا يصحّ استصحاب الكليّ أعني الحيوان و يترتّب عليه آثاره الشرعيّة، دون آثار خصوص الفيل مثلا، و كذلك فيما نحن فيه نقول: انّا علمنا بوجود النجاسة لكنّها مردّدة بين كونها ذاتية طويل المدّة، و ثابتة باقية لا ترتفع الّا بإظهار الشهادتين بعد البلوغ و بين قصيرها الّتي ترتفع بمجرّد الغسل و هي النجاسة العرضيّة، و من المعلوم انّ الشك هو الشك في الرافع حيث انّ النجاسة من الأمور المقتضية للبقاء إلى الأبد لو لا الرافع، فلو كانت في الواقع عرضيّة فإذا غسلها فقد جاء الرافع و تحقّق و أزالها و ان كانت ذاتيّة فهي باقية لا تزول و لا ترتفع به فيستصحب أصل النجاسة و يترتب آثارها

فإنّها الجامع المشترك بينهما.

و ان شئت فقل انّ هذا نظير الرطوبة المتردّدة بين المنىّ و البول فإنّه و ان لم يجز ترتيب آثار خصوص الجنابة حتّى لا يجوز للواجد التوقّف في المسجد باستصحاب الجامع، الّا انّ استصحاب الجامع اعنى الحدث و ترتيب آثاره جائز، و ثمرة ذلك عدم جواز الصلاة، حيث انّ الحدث مطلقا مانع عنها سواء كان هو الحدث الأكبر أو الأصغر، فهذا الشخص قبل التوضؤ كان على يقين من الحدث و

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 112

بعده يشكّ في زواله و بقاءه فيستصحب أصل الحدث فلا يجوز له الدخول في الصلاة مثلا لانّ هذا الأثر أثر الجامع. هذا.

لا يقال: انّ مقتضى أصالة عدم كون النجاسة ذاتيّة ترتّب آثار الطهارة، كما انّ مقتضى الأصل في مثال الطويل و القصير من العمر هو أصالة عدم كونه طويلا.

لأنّا نقول: ليست الطهارة من آثار عدم كون النجاسة ذاتيّة، بل اللّازم بعد جريان هذا الأصل ان يقال: فكانت عرضيّة، ثم يترتّب عليها طهارتها بالغسل، لأنّ الطهارة من آثار النجاسة العرضيّة فيؤل الأمر الى الأصل المثبت و هو باطل كما حقّق في محلّه. و على الجملة فمقتضى استصحاب أصل النجاسة بعنوانها الجامع و ترتيب آثارها هو الحكم بنجاسة ولد الكافر.

و لنا عن هذا الاستصحاب جوابان نقضي و حلّي:

امّا الأوّل: فهو انّه لو صحّ هذا الاستصحاب لوجب الحكم بنجاسة الحديد أبدا إذا تنجّس بالعرض حيث انّ نجاسة الحديد الذاتيّة محتملة لورود بعض الروايات بذلك. [1]

و من الواضح المعلوم انّ من قال بطهارته يقول بها عند عدم تنجّسه بالعرض فعلى هذا لو تنجّس بالعارض فهناك يقطع بنجاسته و إذا غسل بالماء و شكّ في طهارته و نجاسته يحكم بنجاسته،

لانّه لو كانت النجاسة عرضيّة فقد زالت و لو كانت ذاتيّة فهي باقية بعد، و لو جرى الاستصحاب فيما نحن فيه للزم جريانه في هذا المورد ايضا و ان لا يحكم بطهارته بعد الغسل بل اللّازم هو الحكم بالنجاسة لعدم فرق بين المقامين أصلا مع انّهم لا يقولون بنجاسته.

______________________________

[1]. راجع وسائل الشيعة ج 1 ص 203 ب 14 من أبواب نواقض الوضوء ح 4 و 5، و ج 3 ب 32 من أبواب لباس المصلّى ح 6، لكن في الحدائق ج 5 ص 233: لم أقف على قائل بنجاسته، و في الجواهر ج 6 ص 84 دعوى الإجماع محصّلا و منقولا على الطهارة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 113

و امّا الثاني: فنقول: انّ الاستصحاب كما ذكره علم التحقيق و التقى الشيخ المرتضى و المحقّقون، على قسمين: الاستصحاب الموضوعي و الاستصحاب الحكمي لأنّه تارة يجري في الموضوعات، و اخرى في الأحكام، و ثمرة استصحاب الموضوع جعل حكم الموضوع و ترتيبه عليه في الآن اللاحق، مثلا لو شكّ في انّ الخمر الكذائي صار خلّا أم لا فيجري استصحاب الخمريّة، و فائدته جعل الحرمة- الّتي كانت متعلّقة بالخمر المعلوم- لهذا المشكوك و امّا استصحاب الحكم فإنّه جعل حكم كالحكم السابق الّا انّ الحكم السابق كان حكما واقعيّا و هذا الحكم الفعلي حكم ظاهريّ، فلو شكّ في وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة بعد ان كانت واجبة في زمن الامام عليه السلام فيستصحب وجوبها و معنى استصحابه جعل (صلّ) فعلا نظير «صلّ» في زمن الحضور مع تفاوت انّ الأوّل واقعيّ و الأخير ظاهريّ.

ثمّ انّ بين الموضوعات و الأحكام فرقا و هو انّه يمكن في الموضوعات جعل الحكم للفرد

و يمكن جعله للجامع فإذا قيل: ان جاءك زيد فأعطه درهما، فقد حكم بالإعطاء بشخص زيد و خصوصية الزيدية ملحوظة عند المتكلّم امّا إذا قيل: ان جاءك إنسان أو فقير مثلا فأعطه درهما، فهنا قد تعلّق بالجامع و لوحظ القدر المشترك و الكلىّ بين زيد و غيره.

و امّا الأحكام فلا يمكن فيها جعل القدر الجامع بل لا بدّ من جعل شخص الحكم و لا يزال المجعول في الأحكام يكون شخصيا و ليس جامع الحكم مجعولا ابدا فانّ الجامع أمر انتزاعي لا يكون بحذائه في الخارج شي ء بل ما كان بحياله هو الافراد فقط.

إذا تحقّق هذا فلا يصحّ ان يقال: النجاسة الجامعة كانت موجودة سابقا و الآن شكّ في بقاءها فهي في الحال أيضا موجودة لأنّها بلحاظ كونها جامعة بين

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 114

الذاتيّة و العرضيّة ليست مجعولة حتّى تستصحب و انّما المجعول هو شخص النجاسة الذاتية و شخص النجاسة العرضيّة فلا يمكن إسراء الاستصحاب- الجاري في البقّ و الفيل أو في البول و المنى- فيما نحن فيه حيث انّهما من قبيل الموضوعات و ما نحن فيه من استصحاب الأحكام.

و يمكن ان يقال: سلّمنا عدم إمكان استصحاب الجامع فيما نحن فيه لكنّا تمسّك باستصحاب أحكام الجامع و آثاره نظير عدم جواز الدخول في الصلاة المترتّب على الجامع بين الحدثين- الأكبر و الأصغر- في الرطوبة المردّدة بين البول و المنى.

و الجواب عنه انّه: بعد عدم إمكان استصحاب الجامع هنا يتردّد أمر الولد بين كونه نجسا أو طاهرا و هذا بعينه مصبّ أصالة الطهارة و مجراها و لا مجال لجريان استصحاب حكم الجامع و أثره مع كونه بنفسه غير قابل للجعل و لا تصل

النوبة إلى ترتّب آثار النجاسة بعد شمول (كل شي ء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر) له، هذا، و قد تحصّل ممّا ذكرنا انّ التمسّك بالاستصحاب ايضا لا ينفع المستدلّ، لعدم جريانه.

الكلام في السيرة

و قد يستدلّ لإثبات نجاسة أولاد الكفّار بالسيرة القطعيّة المستمرّة من زمن المعصوم الى زماننا في معاملتهم معاملة آبائهم و الاحتراز عنهم و إلحاقهم بآبائهم، و عدم الافتراق بينهم.

و نحن نقول: لو ثبت ذلك و تحقّق اتّصال السّيرة بزمن المعصوم و عصر الأئمّة عليهم السلام فنعم المراد و يثبت بها المطلوب. و لو لم يكن في الأدلّة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 115

الماضية ما تطمئنّ إليه النفس فهذه بنفسها كافية الّا انّ إثبات ذلك مشكل، فلم يثبت بحسب الظاهر سيرة متّصلة إلى عصر الأئمة لعدم ابتلائهم بهذا في ذلك الزمان.

فتحصّل من جميع هذه الأبحاث انّه لم يبق في المقام شي ء يستند إليه في الحكم بالإلحاق الّا ان يكون الحكم إجماعيّا كما قد يدّعى ذلك، و على هذا فيحكم بتبعيّتهم لهم في النجاسة بالإجماع، و يتمّ الأمر، امّا لو لم يكن إجماع أو شكّ في قيامه و تحقّقه أو في تحقّق السيرة و لم يمكن إثبات الحكم من هذين الطريقين فالحكم لا محالة هو الطهارة بعد الشك في ذلك، لترتّب النجاسة على الكفر و هو لم يتحقّق بعد و المرجع عند الشك هو الطهارة.

لكن لا يخفى عليك انّه على هذا لا يجرى غيرها من الأحكام الإسلاميّة على هذا الطفل قبل ان يبلغ الحلم لكونها مترتّبة على البالغ بخلاف الحكم بالطهارة فإنّه مقتضى كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم انّه قذر. «1»

و لكنّ الإنصاف انه يمكن القول بالنجاسة لذهاب العلماء و الأصحاب الى ذلك

و استقرارا عملهم عليه على ما نعرف من حالهم و عدم وقوع مورد كان عملهم على خلاف ذلك و الّا فلو كان لبان و بعبارة اخرى انّ الحكم بإلحاقهم بآبائهم و معاملتهم معاملة النجس مشهور من كبار العلماء الأتقياء، حفاظ الشريعة، و حملة الكتاب، الذين نعرفهم بكثرة الاهتمام بأمر الدين و لم ينقل في طول التاريخ حتّى من عظيم من عظماء الدين و واحد من علماءنا الأجلّة الماضين و لا من غيرهم من الطائفة المحقّة انّه أنكر ذلك و خرج عن هذه السيرة و الّا لذكر و نقل إلينا لكونه ممّا يقضي العادة بنقله، و الترديد في الابتلاء في غير محلّه.

______________________________

(1). تقدّم مصدر ذلك آنفا فراجع

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 116

ان قلت: من المحتمل انّ هذه السيرة حدثت في الأعصار المتأخرة عن زمن الأئمة عليه السلام و لم تكن متّصلة إلى زمن المعصوم عليه السلام.

نقول: انّ الأصل عدم التبديل و الّا لنقل لنا خلاف عن واحد من العلماء. [1]

ثمّ لا يخفى انّ البحث في نجاسة أطفال الكفّار و طهارتهم يختصّ بما إذا كان أبواه كافرين، و امّا إذا كان أحدهما مسلما فلا إشكال أصلا في كونه ملحقا به لأنّه الأشرف من بين الأبوين.

مسألة في أولادهم من السفاح

بعد التسالم على تبعيّة ولد الكافر له في النجاسة فهل انّ ولده المتولّد سفاحا ايضا كذلك أو يحكم عليه بالطهارة و يقتصر في الحكم بالنجاسة على ولده نكاحا؟

قال صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه بعد تحقيقه في أصل المطلب: نعم قد يمنع الإجماع المزبور في المولّد منهما بغير النكاح الصحيح في حقّه اقتصارا على المتيقّن منه في قطع الأصول و العمومات، و ان كان لا يخلو عن اشكال، كما يمنع فيما

لو كان أحد أبويه مسلما لتبعيّته للأشرف حينئذ بل في شرح الأستاذ انّه الظاهر منهم للأصل و غيره من الإجماع و الاخبار انتهى.

و على هذا البيان فالمتيقّن- من أولاد الكفّار المحكوم عليهم بنجاستهم التبعيّة- المتولدون منهم بالنكاح و الذين يصدق عليهم عرفا أنّهم أولاد لهم

______________________________

[1]. ففي الجواهر كتاب الجهاد ص 134: الطفل ذكر أو أنثى تابع لأبويه في الإسلام و الكفر و ما يتّبعهما من الأحكام كالطهارة و النجاسة و غيرهما بلا خلاف أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه مضافا الى إمكان القطع به من السنّة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 117

فالمتولّد منهم زنى و سفاحا ليس بنجس لعدم دليل على ذلك.

لكنّ الإنصاف انّ هذا لا يخلو من نظر و اشكال- كما استشكل صاحب الجواهر نفسه ايضا على ما رأيت في عبارته- لانّه لو كان الدليل على طهارة ولد الكافر سفاحا الإجماع القائم على نجاسة الولد الصحيح دون غيره.

ففيه انّه ليس معقد الإجماع هو الولد الصحيح العرفي كي يحكم بالطهارة على ولده المتكوّن من غير نكاح، بل الإجماع قائم على نجاسة ولد الكافر، كما انّه ليس للإجماع قدر متيقن ليختصّ بالمتولّد من النكاح بعد ان كان مراد المجمعين هو الأعم بحسب الظاهر.

امّا لو كان الدليل على طهارته الأخبار الواردة في عدم إرث ولد الزنا و اختصاصه بمن تولّد من النكاح حيث يستظهر منها انّه كما لا يرث من أبيه الكافر الزاني كذلك لا يلحق به في النجاسة أيضا.

ففيه انّ من الممكن التفصيل في الأحكام بين ما كان فيه إكرام للولد كالإرث و أمثاله و ما لم يكن كذلك كالحكم بالنجاسة الّتي هي نوع مهانة و استقذار للوالد و يسرى الى الولد لكونه منه،

فيقال في الأوّل باختصاصه بما إذا كان الولد شرعيّا فلا يرث منه من ولد من الزنا شيئا و في الثاني- أعني ما إذا كان الحكم لأجل المهانة- يسري من الآباء الى الأبناء مطلقا أعم من الولد الصحيح الشرعي و غيره. فسريان النجاسة و الخباثة من الآباء الى الأبناء غير مختصّ بالولد الحقيقي، بل كما انّها تسرى الى الولد الصحيح كذلك تسرى الى غيره لأنّها مستندة الى التبعيّة و الّا فلا يصدق عليه الكافر، كما أمضيناه في الأبحاث السابقة و لا فرق في التبعيّة بين القسمين من الولد.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 118

كلمة حول التبعية

ثمّ لا يخفى أنّ التبعيّة على قسمين و كلّ منهما أغلبيّة بحسب واقعيّتها:

أحدهما: التبعيّة في الولادة و هذه من الأمور الارتكازيّة يدلّ عليها قوله تعالى وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لٰا يَخْرُجُ إِلّٰا نَكِداً. «1»

و قد أفصح عنها الشاعر بالفارسية بقوله:

زمين شوره سنبل بر نيارد در آن تخم و عمل ضائع مگردان

و معروف بين الناس كالمثل السائر بالعربيّة. و كلّ إناء بالذي فيه ينضح. و بالفارسيّة: از كوزه همان برون تراود كه در اوست.

فالكافر رجس و خبيث لكفره و لا يخرج و لا يتولّد من الخبيث غالبا الّا الخبيث فهذا هو مقتضى خباثة المنشأ، و دنائة المولد، و لؤم الأصل، و سوء المنبت، كما انّ الأصل الطيّب و المنشأ الطاهر لا ينتج الّا ثمرات طيّبة و أولادا امجادا صلحاء، فإنّ الطهارة و الكرامة موروثتان من معدن أصيل في الأسرة و من البيوت العريقة في الدين.

ثانيهما: التبعيّة في التربية الّتي أشار إليها النّبي الأقدس صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الحديث الشريف الذي أمضيناه:

(إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه) فالفطرة الإسلاميّة ثابتة مودعة في كلّ مولود مدّخرة في زوايا قلبه و أعماق نفسه حتّى من ولد في بيئة الكفر و تكوّن من والدين كافرين و نشأ في اجواء الضّلال و مواطن الشرك و الإلحاد فقد أودع اللّه في قلبه حبّ المبدأ و الرغبة إلى الحق و التوحيد و الدّين الحنيف و الصراط المستقيم لكنّ التربية المغلوطة

______________________________

(1). سورة الأعراف الآية 58.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 119

تهوّده و تنصّره فانّ البيئة مؤثرة جدّا و شئون البيت و ساكنيه نافذة قطعا و اعتقادات المربّي تسرى إلى المربّي «بالفتح» بلا ارتياب و على الجملة فنجاسة الأولاد تبعيّة لا تعبديّة محضة و من المعلوم جريان كلّ قسم منهما في ولد الكافر سفاحا ايضا مع ضميمة أخرى و هي كونه من السفاح فيزداد به خبثا، و قد تحصّل أنّ إخراج ولد الزّنا من حكم الأولاد غير صحيح و انّه لا فرق في نجاستهم بين ما إذا ولدوا من نكاح صحيح أو من سفاح.

مسألة بالنسبة إلى ولد الكافر، المجنون

بعد ثبوت نجاسة ولد الكافر فلو بلغ و جنّ فهل هو يطهر أو يبقى على نجاسته؟ في المسئلة أربعة صور:

الاولى: ان يبلغ مجنونا سواء كان الجنون قبل البلوغ أو مقارنا له.

الثانية: ان يبلغ أوّلا ثم يكفر ثمّ يجنّ.

الثالثة: ان يبلغ أوّلا ثم يسلم ثمّ يجنّ.

الرابعة: ان يبلغ عاقلا ثمّ يجنّ في الفترة و فسحة النظر، و هذا هو الفرض الذي قد تعرّض له صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه.

امّا الفرض الأوّل: و هو ما إذا بلغ مجنونا فالحكم هنا النجاسة [1] و الدليل على ذلك الاستصحاب لانّ الكفر و التبعيّة منتفيان، امّا الكفر فلانّه فرع العقل فلا يتحقّق

في حال الجنون و هذا بحسب الفرض مجنون و كان بلوغه عن الجنون فلا يتمّ الحكم بالنجاسة مستندا الى الكفر، و امّا التبعيّة فلاختصاصها بالطفل فإنّه

______________________________

[1]. كما انّ الشيخ المرتضى نوّر اللّه مرقده بعد ان حكم بنجاسة أولاد الكفار و ان العمدة في ذلك انّه شي ء مركوز في أذهان أهل الشرع، قال: و الظاهر انّ من بلغ مجنونا حاله حال الطّفل انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 120

تابع و لذا يحكم بنجاسته بالذات للتبعيّة و مفروض البحث هو البالغ الكبير فلا يكون تابعا و النتيجة انّه لا يمكن إثبات نجاسته الّا بالاستصحاب لثبوت الموضوع و صدق بقاءه و عدم تغيّره عرفا فيقال هذا كان نجسا قبل البلوغ أو بالأمس و اليوم قد بلغ و نشكّ في بقاء نجاسته فهو نجس بعد بمقتضى الاستصحاب.

اللّهم الّا ان تقيّد نجاسة الطفل في موضوع الدليل بما انّه طفل و صغير فعلى هذا تنتفي النجاسة بعد البلوغ بلسان نفس الدليل فإنّه ليس بصغير فعلا كما في كلّ مورد أخذ عنوان في دليل ثم انتفى ذلك العنوان فإنّه لا يجرى الاستصحاب حينئذ بل ينفى الحكم بنفس الدليل، مثلا لو قيل يجوز الاقتداء بالعادل و فرضنا انّ زيدا مثلا كان عادلا ثم علمنا أنّه أصبح فاسقا فنفس دليل جواز الاقتداء بالعادل يكفي في عدم جواز الاقتداء به و هو ناطق بذلك، كما انه لو أصبح عادلا ثانيا لدلّ نفس الدليل الأوّل على جواز الاقتداء به بلا حاجة الى الاستصحاب أصلا.

و الحاصل: انّه لو كان ما نحن فيه كذلك بان كان الدليل ناطقا بأنّ أولاد الكفّار في حال الصغر تابعون لهم فبعد الكبر لا مورد لاستصحاب تبعيّتهم أصلا فإنّ الدليل يطرد

الحكم و يرفعه عن هذا المورد و حينئذ يحكم بطهارته لخروجه عن محور الموضوع.

نعم قد يؤخذ العنوان في نفس الدليل لكنّه لأجل إثبات الحكم فعلا و انّ الحكم ثابت ما دام العنوان ثابتا و لكنّه ساكت بالنسبة الى ما بعده و لا تعرض له أصلا لا نفيا و لا إثباتا مثل قيام الإجماع على نجاسة ولد الكافر فيما قبل بلوغه و حال صغره (لا قيدا بل ظرفا) بلا تعرّض أصلا لما بعد البلوغ فإذا بلغ و جنّ و شكّ في طهارته و نجاسته جرى استصحاب النجاسة ان كانت له حالة سابقة كما إذا

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 121

جنّ حين البلوغ فإنّه كان نجسا سابقا و موضوع الدليل و هو الصغر قد انتفى و ارتفع- لانّه كبير فعلا- و لكنّ الموضوع باق و ثابت عرفا ألا ترى انّ الحكم بنجاسته الآن إبقاء لنجاسة هذا عرفا، فلا يقال انّه شخص آخر حكم عليه بالنجاسة، و على الجملة فيجري استصحاب النجاسة.

و هنا اشكال و هو: انّه بعد الشك في طهارته و نجاسته يجري أصل الطهارة لا استصحاب النجاسة.

و الجواب عنه: انّ الاستصحاب مقدّم على أصل الطهارة حيث انّه ناظر الى الواقع بخلاف أصالة الطهارة التي هي مجرّد وظيفة للشّاك و المتحير و لو فرض عدم حالة سابقة و شكّ في الطهارة و النجاسة مع عدم تعرّض الدليل لما بعد البلوغ فهناك تجري أصالة الطهارة.

و امّا الفرض الثاني: و هو ما إذا بلغ ثم كفر ثم جنّ فهنا يحكم بنجاسته قطعا و ان لم يشمله دليل الكفر لعدم اجتماعه مع الجنون على ما أمضيناه آنفا كما انّ دليل التبعيّة أيضا لا يشمله لانقطاع التبعيّة بالبلوغ، و

المفروض انّ هذا بالغ فيشك في طهارته و نجاسته و يحكم عليه بالنجاسة بمقتضى الاستصحاب، لانّ جنونه حسب الفرض كان مسبوقا بالكفر، فقد كفر بعد بلوغه، ثمّ جنّ، فيكون نجسا.

نعم لو كانت النجاسة مترتّبة على الكفر أو الشرك بحيث لو لم تتحقّق الصفة لحكم عليه بالطهارة و ان لم يكن مسلما، و بعبارة أخرى: لو كانت النجاسة و الطهارة دائرتين مدار صدق الكفر و عدمه بلا اىّ دخل لغير صفة الكفر وجودا و عدما بحيث يكون الكفر وحده علّة تامّة للنجاسة كما استفاده بعض من الآية الكريمة: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قائلا: انّ النجس من بين افراد الإنسان هو المشرك فقط أو هو و من كان بحكمه كالسابّ، حسب ما تعرّضنا في مفتتح

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 122

الأبحاث و أوائل الكتاب فهناك يحكم على المجنون في فرض بحثنا بالطهارة فإنّه انسان غير الكافر و الحكم بالنجاسة مختصّ بالكافر.

امّا لو لم يكن الأمر كذلك و لم تكن الآية متعرّضة لغير المشرك أو الكافر و لم تكن بصدد الحكم بطهارة من عداه بل كانت متعرضة له وحده ساكتة عمّا عداه و غير متعرّضة بالنسبة الى ما وراء ذلك فلا دليل على نجاسة المورد المفروض و لا على طهارته فيشكّ، و لا محالة يجري الاستصحاب فيحكم ببقاء الحالة السابقة على الجنون.

و امّا الفرض الثالث: و هو ان يبلغ ثم يسلم ثم يجنّ فلا اشكال هنا في طهارته و ان فرضنا عدم صدق المسلم عليه و عدم تحقّق الإسلام في هذه الحالة و بعبارة اخرى انّه محكوم بالطهارة و ان قلنا بطهارة المسلم بما هو مسلم و بما هو متّصف بصفة الإسلام، و المجنون حال جنونه ليس

بمسلم و لا متّصفا بالإسلام و على الجملة فنقول بطهارته حيث لم يدلّ على نجاسته دليل و لا شكّ في كونه طاهرا ذاتا قبل جنونه فيستصحب طهارته.

و امّا الفرض الرابع: و هو ما إذا جنّ في فسحة النظر، و بعبارة اخرى كان من ابتداء بلوغه و تكليفه بصدد التحقيق في الأديان و التنقيب في الشرائع لتشخيص ما هو الحقّ منها فشرع في التفكّر و الدّقة و النظر فصار مجنونا فلا تشمله أدلّة التبعيّة لكونه بالغا و لا الكفر حيث انّه مجنون و لكن يحكم عليه بعين الحكم الذي كان يترتّب عليه في حال صحّة عقله من النجاسة و الطهارة و الظاهر انّه كان طاهرا و بحكم المسلم في تلك الحال لعدم تبعيّته لهم أو اعتناقه لعقيدتهم، هذا كاف في الحكم بالطهارة بناء على انّ المستفاد من الآية الشريفة هو حصر النجس من افراد الإنسان في من ثبت كفره، و على الجملة فهنا يستصحب حكم حال صحوه و لا تصل النوبة إلى التمسك بأصالة الطهارة كما

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 123

زعمه صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه. [1]

بحث في المسبيّ:

بعد الحكم بنجاسة ولد الكافر فلو سباه مسلم و استرقّه فهل يكون كذلك أيضا أو يحكم بطهارته حيث انّه في يد المسلم و تابع له؟

للمسئلة صور لأنّ المسبيّ لا يخلو امّا ان يكون كبيرا أو صغيرا و على كلا التقديرين فامّا ان يسبى مع أبويه أو مع أحدهما و امّا ان يسبى منفردا فهو وحده مسبيّ.

فنقول: لا نزاع في الصورة الاولى و هي ما إذا سبي كبيرا مع والديه أو مع أحدهما فإنه باق على نجاسته.

و كذلك في الصورة الثانية و هي ما إذا سبي كبيرا

منفردا فإن النجاسة لا ترتفع إلّا بالإسلام و لا يكفي مجرّد السّبي.

الثالث ما إذا سبي صغيرا مع والديه أو مع أحدهما و الحكم هنا أيضا النجاسة للتبعية.

: و امّا الصورة الرابعة و هو ما إذا سبي منفردا صغيرا فهذا هو محلّ النزاع و الكلام في انّه طاهر أو نجس؟

و يمكن ان يستدلّ على طهارته بأمرين:

أحدهما: انّ سبب الحكم بنجاسته قبل سبيه هو تبعيّته لأبويه الكافرين و قد زال و ارتفع هذا السبب بسبي المسلم له وحده و تبعيّته له و كما انّ مقتضى ما

______________________________

[1]. راجع الجزء 6 منه ص 46 أقول: لكنّ المبنى الذي ذكره دام ظله العالي هنا قد ردّه سابقا و عليه فلا بدّ من ان يؤخذ بما ذكره في الجواهر.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 124

ذكر تفسيرا لقول النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه انّه يتربّى على عادات اليهودية و النصرانية مثلا و ينحرف في البيئة المنحطّة الملوّثة الظالم أهلها فيعتنق العقائد الباطلة كذلك إذا دخل تحت ولاية المسلم فيرث العقائد الحقّة و تنفذ الحقائق الإلهية في أعماق روحه و زوايا نفسه و ان كان بحسب الذات مشمولا لقوله تعالى وَ الَّذِي خَبُثَ لٰا يَخْرُجُ إِلّٰا نَكِداً. «1» الّا انه ببركة ولاية المسلم عليه و كونه في ظلال الإسلام فهو في معرض الخروج عن هذه القاعدة و صيرورته من الطيّبين و من عباد اللّه الصالحين.

و ان شئت فقل انّ كفر ولد الكافر امّا للتبعيّة التوالدية و التناسليّة أو التربويّة و فيما نحن فيه تكون تبعية الولادة ثابتة محقّقة غير قابلة للتغيير و التبديل و لكنّه خرج بتبعية المسلم عن التبعية

التربويّة فلا تصدق الأخيرة نظير المتولّد من الكافر حديثا و حينئذ لا يصدق عليه انّه تابع لأبويه الكافرين في التربية و على الجملة فالصغير المسبيّ ليس بكافر و تابعا له لما ذكرناه من الاعتبار فيكون طاهرا لخروجه عن التبعية التربوية:

و هنا بيان آخر و هو ان نقول انّ الولادة موجبة للنجاسة إلى أوان التمييز و من أوان التميز يحكم عليه بالنجاسة لأجل التبعية فإذا سبى مميّزا و كان السابي مسلما فلا يكون نجسا لأنّ العلة إذا انتفت انتفى المعلول.

و فيه ان هذه الأمور ليست الّا مقرّبات للمطلب، و استحسانات لتوجيه المقصد، و لا تنهض دليلا لإثبات طهارة ولد الكافر بعد ثبوت نجاسته بالدليل القوىّ.

ثانيهما: قول النبي الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الإسلام يعلو و لا

______________________________

(1). قد تقدّم قريبا موضعه فراجع إن شئت.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 125

يعلى عليه. [1]

تقريب الاستدلال به ان مقتضى اعتلاء الإسلام و مجده، و كيانه و سلطانه صيرورة هذا المسبيّ تابعا للمسلم و محكوما عليه بحكم الإسلام، و هو الطهارة، فإن الحكم بنجاسته و تبعيّته للكافر مع كونه تحت ولاية المسلم لا يناسب علوّ الإسلام و غالبيّته.

و فيه انّ قوله الشريف غير مرتبط بالمقام بل هو متعلّق بما إذا تولّد صبيّ من أبوين أحدهما مسلم و الآخر كافر، و تردّد الأمر في دفعه الى المسلم أو الكافر منهما فهناك يدفع هذا الولد الى المسلم منهما دون الكافر و يتّبع الطفل الأشرف منهما و يلحق به و يحكم بطهارته، و هذا هو مقتضى مجدا الإسلام و علّوه، و كيانه، و شرفه، و غلبته، على الكفر.

و حينئذ فلم يبق في المقام شي ء يثبت طهارته و يقتضيها.

اللّهم الّا

ان يكون المسئلة إجماعيا و قام الإجماع على الحكم تعبّدا [2] و على ذلك فنفس تبعيّة المسلم مطهّرة له كالإقرار بالشهادتين حين البلوغ، و عندئذ لا يمكن التخلّف عنه، و امّا لو لم يكن إجماع على طهارته فاستصحاب نجاسته السابقة جار بلا اى ترديد أو إبهام.

______________________________

[1]. من لا يحضره الفقيه الطبعة الحديثة ج 4 ص 334. وسائل الشيعة ج 17 الباب 1 من الإرث ح 11 ص 376 أقول: أورد بعض الأكابر على الاستدلال بهذا الخبر- في المكاسب- بأنّه يحتمل معان أحدها بيان كون الإسلام أشرف المذاهب ثانيها بيان انّه أقوى حجّة ثالثها انه يغلب على ما عداه من الأديان رابعها انّه لا ينسخ خامسها ما اراده الفقهاء من بيان الحكم الشرعي الجعلي بعدم علوّ غيره عليه و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال انتهى.

و قد أورد بعض الأجلة إشكالا آخر على الاستدلال لا به فراجع بلغة الطالب للشّيخ محمد كاظم الشيرازي ج 1 ص 218.

[2]. كما ادّعاه بعض الاعلام في قواعده قائلا: فالظاهر هو اتفاق الأصحاب و تسالمهم على إلحاقه بالسابي و لطهارته إلخ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 126

فرعان يكثر الابتلاء بهما

اشارة

الأوّل: انّه قد يتّفق أنّ أطفال اليهود أو النصارى أو غيرهما من الكفار يدرسون في مدارس المسلمين و يتوجّهون في خلال ذلك الى الدين و يعتقدون بما أعتقده المسلمون و يعتنقون الإسلام، بما يتلقّونه من معلّميهم المتدينين أو من منظّم المدرسة أو مديرها أو من أطفال المسلمين و شركاء درسهم الذين يجتمعون معهم في ساحة المدرسة و حلقات الدرس، و لما يسمعون من المعارف العالية الإلهية و الحقائق الخالدة الإسلاميّة و يشعرون بأنّ الإسلام ضامن لسعادة الإنسان و متكفّل لحلّ مشكلاتهم فيتنوّر قلوبهم بمعالم

الدين و يؤمنون باللّه و الرسول فحينئذ هل يخرجون بذلك عن تبعيّة آبائهم الكافرين أم لا؟

الثاني: عكس هذا فقد يتّفق انّه يدرس أطفال المسلمين في مدارس الكفّار و المعاهد الثقافية أو التعليمة الّتي اسّسها الاروبيّون، و يعلّمهم معلّم ضالّ مضلّ، ينشر بين جدران تلك المدارس أفكاره و يبثّ سمومه ضد القرآن، فيشكّك في مناهج الإسلام و عقائد المسلمين، و يكثر من الايحائات الباطلة إغواء لهم، فيؤثّر ذلك في هؤلاء التلاميذ الصغار [1] الى ان ترى انّ بعضا منهم قد انحرف و ترك الإسلام و رغب عنه مقبلا بقلبه الى تلك المعتقدات الواهية و الأوهام الباطلة الكافرة التي اشرب في قلبه بها و على الجملة فإنّ هذا المعلّم

______________________________

[1]. أقول قد شاع هذا البلاء في عصرنا هذا بل المدارس من أقوى اجهزة الاستعمار الكافر الهدّامة التي تبثّ روح الاستهتار و الانحراف و السفور في نفوس النش ء الجديد من الطّلاب و الطالبات.

و الحقّ هو ما قاله الكاتب السّورى الغيور: محمد سعيد العرفي: و في الحقيقة ان المدارس الأجنبيّة قضت على كلّ آمال المسلمين لأنّها موضوعة لنشر التربية الاروبيّة النصرانية التي يقصد منها اضمحلال الإسلام انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 127

المضلّ و عميل الأجانب قد أضلّه و أغواه، فهل يحكم بنجاسته حينئذ أو هو بعد طاهر تبعا لأبويه المسلمين؟.

أقول: امّا الفرض الأوّل: فالظاهر شمول الأدلّة الشارحة لحقيقة الإسلام له، فانّ مفادها انّ كلّ إنسان أعلن الشهادتين: الشهادة للّه تعالى بالتوحيد و للنبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالرسالة- و اعتقد باللّه، و بالنّبوات، و المعاد، و غيرها من المعتقدات الإسلاميّة، فهو مسلم، و ليس البلوغ شرطا في الإسلام، و ربّما يكون غير البالغ

أكثر تميّزا و أشدّ اعتقادا و أقوى ايمانا من كثير من البالغين و قد يكون الصبيّ رشيدا كامل العقل متمكّنا من الاستدلال على مبادئه و معتقداته بنحو لا يتمكن منه الّا الخواصّ.

و يدلّ على عدم اشتراط الإسلام بالبلوغ إسلام الامام علىّ عليه السلام فإنه كان أقدم الصحابة إسلاما، و اسبقهم ايمانا، و كان له من العمر حين نزول الوحي على النبيّ (ص) أحد عشر سنة أو اثنا عشر أو ثلاثة عشر سنة فأسلم و لم يبلغ الحلم على ما قيل- و ان كان ذلك لا يخلو عن المناقشة- و بالجملة فهذا الصبي قد أقرّ بالشهادتين، و اعتنق الإسلام، و اتّخذه دينا له و نبراسا لحياته، فلما ذا لم يحكم عليه بحكم الإسلام بعد عدم اشتراط البلوغ، و اىّ نقص يتصوّر في إسلامه؟

و امّا الفرض الثاني: أعني ولد المسلم الذي انحرف و تأثّر بعقائد أهل الضّلال، و نفذت فيه الأفكار العليلة، التي ركزها فيه تزريق السّفسطيّين أو الملحدين، حتّى أنكر وجود الصانع تعالى، أو وحدانيته، أو رسالة محمد رسول الإسلام صلّى اللّه عليه و آله، أو المعاد، و أشباه ذلك، من ضروريّات الإسلام، عن عقل و ادراك، و شعور و تميز، فهذا يصدق عليه انّه كافر، و يحكم عليه بالنجاسة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 128

و ما ورد من انّ أولاد المسلمين مسلمون، و انّ أولاد الكفّار كفّار «1» فهو مختصّ بما إذا لم يكونوا مستقلّين في العقيدة و الاعتقاد، امّا الطفل المستقلّ في ذلك فهو لا يتّبع والديه لا في الإسلام و لا في الكفر و كذا ما ورد من الروايات في أولاد المشركين من انّهم يدخلون مداخل آبائهم «2» فهو ايضا لا يشمل

المستقلّ في الاعتقاد المنقطع عن أبويه و عن أهل نحلته هذا.

مضافا الى ما ذكرناه سابقا من كون هذا الأمر أخرويا و لا مساس له بالدنيا.

و ربّما يقال: انّ مقتضى رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم [1] عدم اعتبار إسلام الصبيّ أو كفره الى ان يبلغ الحلم، و على هذا فلا يحكم بإسلام الطفل في الفرض الأوّل و لا يحكم عليه بالكفر في الفرض الثاني.

و الجواب: انّ الظاهر من رفع القلم عنه هو رفع قلم المؤاخذة لا عدم ترتّب حكم عليه أصلا و لذا لو أجنب الصبي وجب عليه الغسل بعد البلوغ فدليل رفع القلم لا يرفع هذا و أمثاله من الأحكام و ان أمكن للشارع رفعها الّا انّ لسان الدليل لا يقتضي ذلك و الحاصل انّ مقتضاه رفع المؤاخذة فقط و عدم جريانه في الأحكام الوضعيّة.

نعم مقتضى إطلاق رواية حفص المذكورة سابقا الواردة في رجل أسلم في دار الحرب، و قول الامام عليه السلام: إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار هو التبعيّة مطلقا سواء كان الطفل سالكا سبيل أبويه أو سبيلا يخالفه و يضادّه أو لم يتّخذ سبيلا أصلا و على هذا فمجرّد إسلام المرء يكفي في إسلام الولد، و كفره

______________________________

[1]. عن ابن ظبيان قال: اتى عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال علىّ عليه السلام: اما علمت انّ القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتّى يحتلم و عن المجنون حتّى يفيق و عن النائم حتّى يستيقظ. وسائل الشيعة ج 1 الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.

______________________________

(1). راجع البحار ج 5 ص 292 ح 9 و ص 294 ح 21.

(2). من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491 و هو صحيح

عبد اللّه بن سنان.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 129

ايضا كاف في كفره.

و لا يخفى انّ هذا يتمّ لو كان الصغر عنوانا اصطلاحا لما قبل البلوغ و معرّفا له فإنّه على هذا تدلّ الرواية على انّ ولد المسلم الذي لم يبلغ الحلم يكون مسلما، اى يترتّب عليه آثار الإسلام و أحكامه، و ولد الكافر كذلك يكون كافرا، اى يترتّب عليه أحكام الكفر، امّا لو لم يكن الأمر كذلك بل كان للفظ الصغير معنى عرفيّ و لغويّ، و هو الطفل غير المستقل و الولد التابع (لا عنوانا لعدم البلوغ أو عبارة أخرى عن تعبير بعض الروايات أعني الذي لم يبلغ الحلم) فعلى هذا يكون الصغير منصرفا عن الطفل الذي استقلّ في الرأي و العقيدة، و الظاهر هو الوجه الثاني لا الأوّل و لذا افتى كثير من العلماء بمشروعيّة عبادات الصبي و صحّتها.

نعم ربما يخطر ببالي و يبدو في نظري في هذا المقام وجه لم أجد من تمسّك به و هو انّ العلماء رضوان اللّه عليهم أجمعين يتمسّكون لإثبات عدم اثر على بيع الصبيّ بما ورد من انّ عمد الصبيّ خطأ [1] و الأخذ بظاهر هذا الدليل في المقام يقتضي عدم الاعتناء بإسلام الصبيّ أو كفره، و عدم ترتيب آثارهما أصلا فإنّ إسلامه أو كفره الذي نشأ عن عمد فهو كالخطإ و يكون هذا الصبيّ كمن أسلم بلا اختيار، أو كفر بلا ارادة و كما انّهم قالوا لا يعبأ ببيعه و سائر عقوده و أفتوا بأنّ الصبيّ لو وكل في إنشاء العقد لا يكون عقده منشأ للآثار، بل عمدة في إجراء العقد كالخطإ، و كأنّه فعله بلا اختيار، و هكذا يقولون في سائر الأمور و الموارد،

فليكن ما نحن فيه ايضا كذلك.

______________________________

[1]. وسائل الشيعة الجزء 19 الباب 11 من أبواب العاقلة ح 2 عن محمد بن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: عمد الصبي و خطأه واحد. و الباب 36 من أبواب القصاص في النفس ح 2 عن علىّ عليه السلام انّه كان يقول في المجنون و المعتوه الذي لا يفيق و الصبيّ الذي لم يبلغ: عمدهما خطأ تحمله العاقلة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 130

الّا انّه يرد عليه انّ الظاهر من (عمد الصبيّ خطأ) كونه في مقام الامتنان و مقتضاه رفع خصوص ما كان في رفعه امتنان دون ما لا يكون كذلك، فكلّ ما كان في رفعه منّة فهو مرفوع فأخذ الصبيّ بقوله و بيعه، و إلزامه على ذلك، خلاف الامتنان، و يأتي في تلك الموارد عمد الصبيّ خطأ، و يحكم مثلا بعدم صحّة عقده، و يقال انّ قول الصبيّ: (بعت) كقول الساهي، فإنّ هذا هو مقتضى الإرفاق و الامتنان من اللّه تعالى عليه، حيث انّ نوع أفعاله و تصرفاته على خلاف المصلحة، و هكذا لا تترتّب عليه أحكام الحدود، و القصاص، فلا تكليف و لا إلزام عليه، لانّ لسان رفع القلم رفع المؤاخذة امتنانا.

و هذا هو السبب في انصرافه عمّا إذا أقرّ بالشهادتين، فإنّه يترتّب عليه الأحكام و يؤثّر إقراره و اعترافه، و يخرج به عن تبعيّة الأبوين الكافرين و يكون طاهرا.

نعم قصارى ما يكن ان يقال هنا انّه يشمل ما إذا أقرّ بالكفر، أو قال بكلمة الرّدة، فيقال انّ عمده في ذلك كالخطإ فيه، فلا يعبأ بقوله هذا، و هو بعد باق على تبعيّته للوالد المسلم على ما هو مقتضى الامتنان.

و امّا عدم قبول الإقرار

بالشهادتين من الصبيّ فلا يقتضيه الامتنان بل هو خلافه.

و لوضوح البحث نمثّل مثالا فنقول: لو شتمنا صبيّ فمقتضى الامتنان و انّ عمد الصبي خطأ هو عدم الاعتناء بشتمه، و ان لا نرتّب عليه أثرا، و امّا لو سلّم علينا فلا يصحّ ان يقال انّه لا يجب ردّ سلامه، تمسّكا بعمد الصبيّ خطأ، بل يجب علينا بمقتضى قول اللّه تعالى وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا «1» ردّ سلامه، فهو كغيره و ان لم يكن عليه التسليم بل و لا يجب عليه ردّ السلام إذا

______________________________

(1). سورة النساء الآية 86.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 131

سلّم غيره عليه، الّا انّه لو سلّم يجب ردّ سلامه عليه.

و على ذلك فلا بعد أصلا في كون الصبيّ المتميّز المقرّ بالشهادتين و سائر اللوازم محكوما عليه بالإسلام و الطهارة، و خارجا بذلك عن تبعيّة والديه في الكفر.

امّا طفل المسلم و الصبيّ المتولّد منه فلو قال بالرّدة فيمكن التمسك هناك بعمد الصبي خطأ، و القول بعدم ترتّب الأثر عليه، و انّه باق على تبعيّة المسلم فتكون ردّته نظير ردّة من قال بها بمجرّد لقلقة اللّسان فهي غير مؤثرّة، كما انّه لو قتل أحدا لا يقتل به و على الجملة فالآثار الوضعيّة مترتّبة ما لم تكن خلاف الامتنان.

تنبيه:

ثمّ انّه لا يتوهّم ممّا ذكرنا مثالا- من تعلّم أولاد الكفّار في مدارس المسلمين و معاهدهم العلميّة- عدم جواز ذلك، فإنّه جائز قطعا و بلا اشكال، و كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ينهى [1] عن ان يكون لأهل الكتاب مدارس مستقلّة في البلاد الإسلاميّة، و يمنع عن تأسيسها فيها لأنفسهم، و كان أولاد أهل الكتاب يتعلّمون و يدرسون في

مدارس المسلمين مع أطفالهم.

و كان هذا لأجل نكتة شريفة اجتماعيّة و هي انّهم إذا كانوا في مدارس المسلمين- مع انّ مناهجها التعليميّة و برامجها و نظاماتها بيد المسلمين و تحت مديريّتهم و انّ هذه الأطفال يعاشرون المسلمين و أطفالهم- فمن الممكن جدّا ان يتسرّب إليهم شي ء من سيرتهم الحسنة أو قبس من أقوالهم القيّمة المضيئة و يهتدوا الى اللّه و يتوجّهون إلى الإسلام في ظلال معاشرتهم هذه، و ببركة

______________________________

[1]. كلّما تفحّصت لم أعثر على مصدر هذا المطلب.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 132

مساورتهم لأطفال المسلمين، فإنّ المجالسة مؤثرة، و العقائد و الصفات تتغيّر بالمعاشرة و المخالطة.

كلمة اخرى حول التبعية

و لمّا كان الدليل على نجاسة أولاد الكفار و عمدة ما يعتمد عليه في الحكم بالتبعيّة، الإجماع فاللازم في الحكم المزبور الاقتصار على القدر المتيقّن، و هو ما إذا كانت التبعيّة محقّقة عرفا. فلو استقلّ الولد و خرج عن عنوانها، قبل ان يبلغ فلا دليل على تبعيّته و نجاسته سواء كان استقلاله بنحو ما ذكرناه آنفا و هو اختياره الإسلام، و اعتناقه العقائد الإسلاميّة المقدّسة، أو بنحو ذكره الفقيه الهمداني رضوان اللّه عليه بقوله:

فلو استقلّ الولد و انفرد و لحق بدار الإسلام و خالط المسلمين و خرج عن حدّ التبعيّة العرفيّة خصوصا مع تديّنه في الظاهر بدين الإسلام و لا سيّما على القول بشرعيّة عبادة الصبيّ فلا ينبغي الإشكال في طهارته انتهى. «1»

غاية الأمر انّ مثالنا مشمول للأدلّة الشارحة لمفهوم الإسلام، و ما ورد من انّه يتحقّق بالإقرار بالشهادتين، فالطفل المزبور طاهر بالدليل بخلاف المثال الذي فرضه قدّس سرّه، فإنّه لا تشمله هذه الأدلّة لأنّ مجرّد لحوقه بدار الإسلام و مخالطته للمسلمين لا يوجب صيرورته مسلما ما

لم يقرّ بالشهادتين فالدليل على طهارته- على ما يستفاد من كلامه- انّ المتيقّن من نجاسة أولاد الكفّار هو ما إذا لم يستقلّوا و المفروض انّ هذا قد خرج عن دار الكفر و استقلّ بنفسه. و حيث انّه ليس تابعا لأبويه فلذا لا يحكم عليه بالنجاسة.

______________________________

(1). كتاب الطهارة مصباح الفقيه ص 563.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 133

و امّا استصحاب النجاسة فلا مجال له بعد تبيّن الموضوع و عدم تحقّقه عرفا فانّ موضوع النجاسة واضح معلوم، و هو واحد من أمرين:

أحدهما: الكفر فقد دلّت الآية الكريمة على انّه علّة تامّة في الحكم بنجاسة الإنسان.

ثانيهما: التبعيّة فقد قام الإجماع على انّها العلة في نجاسة أولاد الكفّار و هما- اى الكفر و التبعيّة- معا منفيّان لانّ الطفل المزبور ليس كافرا و هو معلوم، لكونه صبيّا، و لا تابعا للكافر، لخروجه عن دار الكفر، و دخوله في دار الإسلام، فالموضوع و هو التابع قد تبدّل، و هذا بعينه نظير ما إذا علمنا انّ المدار في جواز الايتمام و عدمه هو العدالة وجودا و عدما، و فرضنا انّ زيدا كان عادلا ثم صدر منه الفسق فإنّه لا مجال حينئذ للاستصحاب لتبدّل الموضوع.

كما انّه لو شكّ في المراد من التبعية و انّها هي التبعيّة في الولادة كي يكون نجسا الى ان يبلغ الحلم و يتّضح هناك انّه كافر فينجس كما كان، أو مسلم فيكون طاهرا، أو التبعيّة التربويّة و كونه تحت تربية الكافر، فهنا يتردّد الموضوع حيث لم يدلّ على حدوده و قيوده دليل لفظيّ بل الموضع مأخوذ من الإجماع و هو دليل لبىّ غير ناطق لا لسان له فيشكّ في بقاء التبعية في الفرض و يكون الموضوع مشكوك التحقّق

الآن، و هنا ايضا لا يجرى الاستصحاب كما لا يجرى عند القطع بتبدّله. هذا و لكن الظاهر مع ذلك كلّه جريان الاستصحاب لوجود الموضوع العرفي و بقائه عرفا و حيث انّ المعتمد هو الموضوع العرفي فيجري الاستصحاب كما احتمله علم التحقيق و التقى الشيخ المرتضى رضوان اللّه عليه [1] و ان لم يقوّه، فإنّه

______________________________

[1]. قال في طهارته ص 306 بعد كلام له: و النجاسة الثابتة بالإجماع لم يعلم ثبوتها لنفس الطفل أو الطفل المصاحب للأبوين فلعلّ لوصف المصاحبة مدخلا في الموضوع الذي يعتبر القطع ببقائه

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 134

من القائلين بالطهارة و على الجملة فالموضوع فيما نحن فيه محقّق و باق عرفا، و لذا تستصحب نجاسة هذا الصبيّ الثابتة له قبل استقلاله و دخوله في دار الإسلام.

هذا بالإضافة الى انّ النجاسة- كما في كلمات شيخنا المرتضى قدّس سرّه- مقتضية للبقاء و يحتاج رفعها الى رافع فما لم يتحقّق و لم يثبت قطعا يحكم بالنجاسة و لذا لو لم يقم الإجماع على تبعيّة المسبيّ للسّابيّ و كونه محكوما عليه بحكمه لما قلنا بذلك بل الحكم لولاه هو النجاسة بمقتضى الاستصحاب.

الكلام في حكم اللقيط

اللقيط هو الصبيّ الضّائع الّذي لا كافل له، و لا يستقلّ بنفسه على السعى فيما يصلحه و دفع ما يضرّه.

فلو وجد في دار الإسلام لقيط فهو ملحق بالمسلمين و حكم بإسلامه تبعا للدّار، كما انّه لو وجد في دار الكفر الحق بالكفّار، حكى ذلك عن شيخ الطائفة رضوان اللّه عليه [1] و لا فرق في دار الإسلام بين كونها مبنيّة في الإسلام أوّلا و بين

______________________________

في جريان الاستصحاب و لا يتوهّم جريان مثل ذلك في سائر موارد الاستصحاب و لأنّ النجاسة من

الأمور التي إذا تحقّقت لا يرتفع الّا بالمزيل فلا بد من إثباته لاندفاع الأوّل بأنّ ذلك من خصائص المستصحب الثابت بالإجماع فإنّ الموضوع فيه مشتبه غالبا الّا ان يرجع في تشخيصه الى العرف أو كلمات المجمعين و امّا إذا ثبت المستصحب بالأدلة اللفظية فالموضوع فيه معلوم غالبا و اندفاع الثاني بأنّ النجاسة إنّما تحتاج الى المزيل في ارتفاعها عن محلّها إلخ.

[1]. أقول: قال في المبسوط ج 3 ص 343: و امّا الدار فداران دار الإسلام و دار الحرب فدار الإسلام على ثلاثة أضرب بلد بنى في الإسلام و لم يقربها المشركون مثل بغداد و البصرة فإن وجد لقيط ههنا فإنّه يحكم بإسلامه لأنّه يجوز ان يكون ابنا لمسلم و يجوز ان يكون لذميّ فيغلب حكم الإسلام لقوله عليه السلام: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه الى آخر كلامه قدّس سرّه فراجع.

و قال الشهيد في الدروس ص 299: المراد بدار الإسلام ما ينفذ فيه حكم الإسلام فلا يكون بها

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 135

كونها دار الكفر أوّلا ثمّ بعد ذلك انتقلت- بالحرب أو الصلح- الى المسلمين، أو انّها دار الإسلام باعتبار كونها في الحال معسكر الإسلام و مركز تجمّع جنود المسلمين و جيوشهم و قوّاتهم لكن بشرط كون الأطفال معهم كي يحتمل كون هذا اللقيط منهم، فلو لم يصحبوا أطفالهم فلا يحكم على هذا اللقيط بالإسلام، و كذا في كلّ مورد لم يحتمل كون اللقيط من المسلمين.

و تحقيق البحث انّ هنا مقامان:

أحدهما: في الحكم عليه بالطهارة ثانيهما: في الحكم عليه بالإسلام ليترتّب عليه جميع أحكامه كوجوب غسله و تكفينه و دفنه و غير ذلك.

امّا الثاني: فيدلّ عليه الغلبة الّتي هي أمارة عقلائية لم يردع

عنها الشارع فإنّ الغلبة في دار الإسلام للمسلمين و معهم و ان كان قد يوجد فيها كافر ايضا و حيث انّ الغلبة فيها معهم فيحمل الفرد المشكوك فيه على الغالب الكثير، لا على الشاذّ النادر، و اللقيط- في الفرض- و ان احتمل كونه من الكفّار لكنّه محكوم عليه بالإسلام بمقتضى الغلبة المذكورة.

و ليعلم انّ الأخذ بالغلبة غير مختصّ بباب الأطفال، بل يجري في الكبير ايضا، كما انّك لو كنت جالسا في ناد من أندية بلدة كبيرة مثل تهران الّتي قد يوجد فيها المشرك و يأوي إليها الكافر و يقطنها الطوائف المختلفة و كان بجنبك من يأكل و يشرب معك و أنت لا تعرفه فهناك لا ينبغي ان تشكّ في إسلامه حيث انّ الغلبة تقتضي كونه مسلما بل الحاقه فطريّ طبيعي فربّما لا يحتمل خلافه إلّا الأذهان المشوشة، و احتمال الخلاف لا يأتي إلّا بمنبّه خارجيّ و توجيه من

______________________________

كافر الّا معاهدا فلقيطها حرّ مسلم. و امّا دار الكفر فهي الّتي ينفذ فيها أحكام الكفّار فلا يكن فيها مسلم الّا مسالما فلقيطها محكوم عليه بكفره و رقّه إلخ كلامه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 136

الغير. كما انّ الغلبة في البلاد الخارجة و مدن الأجانب- الّتي قد يوجد فيها مسلم أو مسلمون ايضا- للكفّار فلو شككت في انّ من جلس الى جنبك في تلك البلاد هل هو مسلم أو كافر فلا محالة يحكم عليه بالكفر الى ان يثبت خلافه و ان احتمل كونه مسلما. و العلّة الوحيدة في ذلك غلبة الكفر هناك.

هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الثاني و قد تحصّل انّه يلحق الطفل بالأغلب.

و امّا الأوّل أعني كونه محكوما عليه بالطهارة فلا يفتقر الى التمسّك بالغلبة

بل يكفي احتمال الطهارة أو الإسلام في الحكم بطهارته.

و بعبارة أخرى لا يتوقّف الحكم بالطهارة على وجود امارة على إسلام اللقيط بل يكفي عدم وجود امارة على كفره فبمجرّد احتمال كونه مسلما يحكم بطهارته الى ان يدلّ دليل على الخلاف.

و على هذا فاللقيط في ساحة الحرب و ان كان بدار الكفر- كما إذا وجد فيها بعد تفرّق عسكر الطرفين- محكوم عليه بالطهارة لاحتمال كونه من المسلمين.

و ان شئت فقل انّ الكافر نجس و امّا هذا اللقيط فهو من الشبهة المصداقيّة، و على هذا يشمله دليل الطهارة أعني كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم انه قذر، هذا.

و لكن لا يخفى انّه لا يترتّب عليه سائر أحكام المسلم كوجوب دفنه و غير ذلك، كما انّه لا يجوز سبيه ايضا بمجرّد احتمال كونه من الكفّار لكون السبي مترتّبا على الكفر، و المفروض عدم ثبوته. ثمّ انّ هذا كلّه في الطفل الذي لم يعلم له سابقة في الكفر.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 137

حكم اجزاء الكافر الّتي لا تحلّه الحياة

المنسبق إلى الأذهان ابتداء من نجاسة الكافر انّه كالكلب و الخنزير في كون هذا العين بكافّته نجسا فكما انّ مفاد قولنا انّ الكلب نجس، نجاسة مجموع هذا العين حتّى الظفر و الشعر منه كذلك إذا قيل: انّ الكافر نجس، فالمتبادر منه انّ هذا العين كلّه نجس بلا فرق في اجزائه بين ما تحلّه الحياة و ما لا تحلّه، بل الحكم و الكلام في الكافر أتمّ و أوضح منه في باب الكلب و الخنزير، لانّه وردت في باب الخنزير روايتان- صحيحة زرارة [1] و موثّقة حسين بن زرارة [2]- توهمان

______________________________

[1]. عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير

يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس. وسائل الشيعة ج 1 ص 125 ح 2 ب 14 من أبواب الماء المطلق.

[2]. عن ابى عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلا و يستقى به من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ منها؟ قال: لا بأس «وسائل الشيعة ج 1 ص 126 ح 3.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 138

طهارة شعره- و ان حملهما الأصحاب على ما لا ينافي نجاسته و ذكروا في ذلك وجوها ليس هنا مقام ذكرها- و حيث انّه لا فرق بين الكلب و الخنزير عندهم فيمكن القول بطهارة شعرهما بخلاف ما نحن فيه فإنّه لم تنقل رواية تدلّ على طهارة مثل تلك الاجزاء من الكافر.

و على هذا فيمكن ان يكون منشأ البحث في نجاسة ما لا تحلّه الحياة من الكافر هو التردّد في انّه إذا قيل: الكافر نجس فهل معناه انّ هذا العين بتمام اجزائه من الرأس إلى القدم كذلك بلا استثناء شي ء منه أو انّ معناه نجاسة ما تحلّه الحياة وحده، لأنها هي المدار في الحكم بالنجاسة و موضوعه، و الشك في غيره، نظير الميتة حيث لا ينجس ما لا تحلّه الحياة منه لعدم صدق الميتة عليها و الظاهر هو الأوّل، و النتيجة انّ هذه الجثّة بكافّة اجزاءها نجس مثل الكلب الذي دلّت الروايات على نجاسة عينه مطلقا. [1]

و خالف في ذلك الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني قدّس سرّهما ذاهبا إلى طهارة ما لا تحلّه الحياة من اجزاء الكافر للإشكال بزعمه في دلالة الآيتين- آية إنّما المشركون، و آية الرجس،- على نجاسة الكافر و لخلو الاخبار عن

تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم قال:

نصّ جمع من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكافر بين ما تحلّه الحياة منه و ما لا تحلّه و ظاهر كلام العلّامة في المختلف عدم العلم بمخالف في ذلك سوى المرتضى فإنّه حكم بطهارة ما لا تحلّه الحياة من نجس العين و قد مرّت حكاية خلافه آنفا و بيّنا انّ الحجّة المحكيّة عنه في ذلك ضعيفة و لكن

______________________________

[1]. ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل قال: يغسل المكان الذي أصابه.

فترى انّه حكم بغسل موضع الإصابة مع انّ الماسّ للجسد هو شعر الكلب، و ظاهر قوله: يغسل إلخ هو الوجوب. منه دام ظلّه العالي.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 139

الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الاجزاء لا يتأتّى هنا لخلو الاخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك و قد نبّهنا على ما في التمسك بالآيتين من الاشكال فلا يتمّ التعليق بهما في هذا الحكم حيث وقع التعليق فيهما بالاسم و حينئذ يكون حكم ما لا تحلّه الحياة من الكافر خاليا من الدليل فيتّجه التمسك فيه بالأصل الى ان يثبت المخرج عنه. «1»

و قد تصدّى المحدّث البحرانيّ قدّس سرّه للجواب عنه و الرّد عليه فأجابه بثلاثة وجوه فإنّه بعد ان ذكر كلام صاحب المعالم قال:

و فيه أولا: انّ الاخبار الّتي قدّمناها دالّة على نجاسة اليهود و النصارى قد علّق الحكم فيها على عنوان اليهودي و النصراني الذي هو عبارة عن الشخص أو الرجل و المنسوب الى هاتين الذمّتين و لا ريب انّ الشخص و الرجل عبارة عن هذا المجموع الذي حصل به الشخص

في الوجود الخارجي و لا ريب في صدق هذا العنوان على جميع اجزاء البدن و جملته كصدق الكلب على اجزائه و متى ثبت الحكم بالعموم في أهل الكتاب ثبت في غيرهم ممّن يوافق على نجاستهم بطريق اولى.

و ثانيا: انّه روى الكليني في الحسن عن الوشّاء عمّن ذكره عن ابى عبد اللّه عليه السلام: انّه كره سؤر ولد الزنا و اليهودي و النصراني و المشرك و كلّ من خالف الإسلام و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب «2» و لا اشكال و لا خلاف في انّ المراد بالكراهة هنا التحريم و النجاسة و قد وقع ذلك معلّقا على هذه العناوين المذكورة و منها المشرك و من خالف الإسلام. و كلّ من هذه العنوانات أوصاف لموصوفات محذوفة و قد شاع التعبير بها عنها من لفظ الرجل أو الشخص أو

______________________________

(1). معالم الدين في الفقه ص 261.

(2). وسائل الشيعة ج 1 ص 165 الباب 3 من أبواب الأسئار ح 2.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 140

الذات أو نحو ذلك و لا ريب في صدق هذه الموصوفات على جملة البدن و جميع اجزائه كصدق الكلب على جملته كما اعترف به فكما انّ الكلب اسم لهذه الجملة فالرجل ايضا كذلك و نحوه الشخص.

و ثالثا: انّا قد أوضحنا سابقا دلالة إحدى الآيتين المشار إليهما في كلامه (آية: إنّما المشركون) على النجاسة في المقام و بيّنا ضعف ما أورد عليها من الإلزام و به يتمّ المطلوب و المرام انتهى كلامه رفع مقامه. «1»

لكن أورد علم التقى الشيخ المرتضى على المحدّث البحراني قدّس سرّهما بقوله: لا يخفى انّ كلام صاحب المعالم على فرض عدم دلالة الآيات كما هو المتّضح عنده و كلامه

في الاخبار و لا يخفى أنّ مرسلة الوشّاء على فرض دلالتها لا تدلّ الّا على نجاسة سؤرهم و لا ريب في ظهور السؤر فيما باشره جسم حيوان لا كشعره بل و لا كظفره المجرّد بل عن ظاهره عرفا كما تقدّم في باب الأسئار بقيّة الشراب فلا دلالة فيها على نجاسة مثل الشعر أصلا، و امّا الاخبار الدالّة على نجاسة اليهود و النصارى فليس فيها الّا الاجتناب عن مساورتهم و مخالطتهم و مؤاكلتهم.

ثم قال: فما ذكره في مقابل صاحب المعالم لم يصب موقعه، فالأولى التمسّك في ذلك بإطلاق معاقد الإجماعات المستفيضة بل المتواترة في نجاسة الكفّار. انتهى كلامه الشريف. «2»

أقول: التحقيق ان دلالة الروايات على نجاسة الكفّار تامّة ظاهرة على ما أوضحناه سابقا، فلو كانت الأخبار الواردة في مؤاكلتهم و مساورتهم و مصافحتهم واردة للتّعبّد المحض بتلك الأمور لصحّ ان لا يجزم بنجاسة الشعر مثلا منهم كما

______________________________

(1). راجع الحدائق الناضرة ج 5 ص 175.

(2). كتاب الطهارة ص 306.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 141

افاده شيخنا المرتضى رضوان اللّه عليه، لكن ليس الأمر كذلك، بل الظاهر كونها في مقام بيان نجاستهم فالسؤر نجس لكونه سؤرا من اليهوديّ أو النصرانيّ و كذا يجب غسل اليد و تطهيرها لو صافح المسلم مع نداوة في يد أحدهما أو إذا حصلت المماسّة مع الرطوبة، فيستفاد منها ان اليهوديّ أو النصرانيّ مثلا نجس و إذا كان نجسا فلا فرق في ذلك بين اجزائه لاقتضاء نجاسة العين و الشخص ذلك، فانّ الظاهر منه انّه بجملة بدنه و وجوده و جميع اجزائه كان نجسا سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لا تحلّه كصدق عنوان الكلب على الموجود المعيّن الخاص بشراشر وجوده.

هذا كلّه

مع تسليم ما ذهب اليه صاحب المعالم من خلوّ الاخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم و الحال انّ تسليم ذلك و تصديقه في قوله هذا مشكل فراجع الاخبار تجد صدق ذلك فيها. [1]

______________________________

[1]. الظاهر انّ الحق في المقام مع صاحب المعالم رضوان اللّه عليه و ذلك لأنّا تفحّصنا كثيرا مظانّ المطلب في الكتب كالوسائل و جامع أحاديث الشيعة و مستدرك الوسائل و غيرها و لم نعثر على ذلك.

اللّهم الّا ان يكون نظره الشريف دام ظله العالي الى ما افاده صاحب الحدائق في الوجه الثالث من الوجوه الذي ذكرها، و قد تقدّم ذلك آنفا أو انّه كان تعبير الآية الكريمة إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ في ذهنه الشريف فأورد بأن تعليق النجس على الأعيان محقّق موجود و الحال انّ البحث فعلا في الاخبار بعد انّ صاحب المعالم أنكر دلالة الآيات.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 143

حول معنى الكفر و الإسلام

اشارة

الكفر في اللّغة: التغطية و الستر، يقال: كفرت الشي ء، أي سترته، و لذا يطلق الكافر على الزارع، لأنّه إذا القى البذر في الأرض فقد ستره و غطّاه، و قد ورد هذا الإطلاق في القرآن الكريم قال اللّه تعالى كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً. [1] و في اصطلاح الشارع و عرف المتشرّعة هو الجحد، فمن نفى الصانع أو جحد توحيده أو أنكر النبوّة مثلا فهو كافر بلا فرق بين كون الجاحد مقرّا و معتقدا في الواقع و مذعنا بضميره و قلبه و بين كونه جاحدا في قلبه ايضا.

و هنا بحث و هو انّه هل التقابل بين الكفر و الإسلام تقابل العدم و الملكة كالعمى و البصر حيث انّ العمى عدم البصر لمن كان من

شأنه البصر، فمن كان من

______________________________

[1]. سورة الحديد الآية 20 أقول: و قال لبيد الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها. اى ستر.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 144

شأنه ان يكون مسلما و مع ذلك لم يسلم فهو كافر إلّا في موارد خاصة خرجت بالدليل كأولاد المسلمين الملحقين بهم أو انّ التقابل بينهما تقابل التضاد فالكفر ضدّ الإسلام مع وجود ثالث لهما كالشاكّ مثل تضادّ السواد و البياض حيث انّه يمكن ان لا يتحقّق شي ء منهما بل كان شي ء آخر كالحمرة مثلا؟

و بعبارة أخرى و بيان أوضح، هل الكفر هو الإنكار فلو كان شاكّا بلا إنكار أصلا لم يكن كافرا؟ أو انّ الكفر بمعنى عدم الايمان فبمجرّد عدم الإقرار يكون كافرا سواء كان مذعنا بالخلاف بنحو الجهل المركّب أو كان شاكا؟

ذهب الفقيه الهمداني رضوان اللّه عليه إلى انّهما من قبيل العدم و الملكة فلا يعتبر جحده في الحكم عليه بالكفر عند الشارع بل الشاك ايضا محكوم بالكفر شرعا، و المسلم هو المقرّ بالشهادتين مع اعتقاده بذلك و إليك عين عبارته:

الكفر لغة هو الجحد و الإنكار، ضدّ الايمان فالشاكّ في اللّه تعالى أو في وحدانيّته أو في رسالة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ما لم يجحد شيئا منها لا يكون كافرا لغة و لكنّ الظاهر صدقه عليه في عرف الشارع و المتشرّعة كما يظهر ذلك بالتدبّر في النصوص و الفتاوى.

و ما يظهر من بعض الروايات من اناطة الكفر بالجحود مثل رواية محمّد بن مسلم قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه قال: ما تقول فيمن شك في اللّه تعالى قال:

كافر يا أبا محمد قال: فشكّ في رسول اللّه قال: كافر ثم التفت الى زرارة فقال:

انّما يكفر إذا جحد. و في رواية أخرى لو انّ الناس إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا.

فلا يبعد ان يكون المراد به انّ الناس المعروفين بالإسلام المعترفين بالشهادتين الملتزمين بشرائع الإسلام في الظاهر إذا طرأ في قلوبهم الشكوك و

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 145

الشبهات الناشئة من جهالتهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم يجحدوا ذلك الشي ء الذي شكّوا فيه و لو بترتيب آثار عدمه في مقام العمل كترك الصلاة و الصوم و نحوهما فليس المراد بمثل هذه الروايات انّ من لم يتديّن بدين الإسلام و لم يلتزم بشي ء من شرائعه متعذّرا بجهله بالحال ليس بكافر انتهى.

أقول: التحقيق في المقام التفصيل بان يقال: انّ الإسلام على قسمين:

ظاهري و واقعي.

و الأوّل: يوجب صيرورة الإنسان كسائر المسلمين و داخلا في زمرتهم يجرى عليه أحكام الإسلام، من طهارة البدن، و حلّ المناكحة، و حقن الدم، و احترام ماله و عرضه، فلا فرق في جريان هذه الأحكام و ترتّب هذه الآثار عليه بينه و بين سائر المسلمين، و هو يدور مدار الإقرار بالشهادتين فقط، فإذا أقرّ بهما تترتّب تلك الأحكام.

و اليه يشير قوله تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا «1» و تدلّ عليه ايضا روايات عديدة كما انّ كلمات العلماء و عبائرهم صريحة في ذلك، و لا يزال المسلمون على مضىّ الأعصار و مختلف الأمصار يعاملون المقرّ لسانا معاملة المسلمين.

أضف الى ذلك كلّه انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول للناس:

قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا، و لم يقل اعتقدوا بلا إله إلّا اللّه.

و الحاصل: انّ الكافر هو من لم يقرّ بالشهادتين مع صلوحه لذلك،

سواء كان شاكا أو قاطعا بالخلاف، غاية الأمر انّ عذاب القاطع بالخلاف أشدّ من الشاك، و لا بأس به، فانّ المعذّبين في النار ليسوا على حدّ سواء من العذاب،

______________________________

(1). سورة الحجرات الآية 14.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 146

ألا ترى انّ اللّه تعالى يقول إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ «1» و على هذا فلا حاجة في ترتّب الأحكام المذكورة إلى أزيد من الإقرار بتوحيد اللّه تعالى و رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، سواء كان مذعنا بذلك أم شاكّا بل و ان كان معتقدا بخلاف ذلك كما ثبت انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يعامل منافقي أصحابه معاملة المسلم المسلم، مع انّهم منافقون لم يؤمنوا باللّه و لا برسوله، و كان شأنهم الحطّ من كرامة رسول اللّه، بنسبة ما لا يليق به اليه، و إلصاق اىّ نقيصة به، عند كلّ فرصة تسمح لهم، قال اللّه تعالى فيهم إِذٰا جٰاءَكَ الْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ «2» فإذا حكم على من أقرّ بالشهادتين بطهارة البدن و جواز المناكحة و غير ذلك من الأحكام مع العلم بكذبه في إقراره فكيف بمن كان شاكّا لم يحصل له يقين بعد.

نعم هذا الإسلام الذي لم يتجاوز عن اطار الإقرار لا ينفع في الآخرة شيئا و لا يوجب اجرا و لا ثوابا و لا يعتبر زادا للعبد ليوم معاده و حاجزا له عن عذاب اللّه تعالى، و للآخرة حساب آخر.

و لو لم يقرّ بالشهادتين لم يترتّب و لم يجر عليه شي ء من تلك الأحكام سواء كان معاندا أخذت العصبيّة العمياء بعنانه و قياده،

أو كان مستضعفا لا يستطيع التحقيق، غاية الأمر انّ الثاني لا يعاقب عند اللّه تعالى، بينا يستحقّ الأوّل العذاب الأليم و العقوبة الدائمة.

و امّا القسم الثاني: أي الإيمان الواقعي فهو الدين الذي ارتضاه اللّه للناس

______________________________

(1). سورة النساء الآية 145.

(2). سورة المنافقون الآية 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 147

و قال إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ «1» و قال وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ «2» و هو ملاك الأجر، و مناط المثوبات الأخرويّة، و الحصن الذي يلجأ إليه في التخلّص من النّار، و هو عبارة عن لإقرار المتعاضد بالاعتقاد الجازم و الشهادة المقرونة بعقد القلب لا يفترق و لا يتخلّف أحدهما عن الآخر، و يزول الايمان بزوال كلّ واحد من الأمرين، سواء اعتقد بالقلب و لم يقرّ بذلك لسانا بل أنكره باللسان أو تظاهر بالدين و أقرت باللسان و لم يعتقد بقلبه فيعاقب على عدم اليقين ان لم يكن قاصرا امّا لو كان قاصرا أو لم تسمح له الوسائل الكافلة للقطع و اليقين، فيمكن ان لا يكون معاقبا و معذّبا عند اللّه تعالى.

و الحاصل انّ هذا القسم لا يجامع الشك فضلا عن الإنكار القلبي بخلاف القسم الأوّل الذي كان تمام المعيار فيه هو الإقرار باللسان حيث انّه كان يجامع الإنكار القلبي فضلا عن الشك.

ثمّ انّ بين ما مضى من كلام المحقّق الهمداني و ما اتى به بعده نوع تهافت و تنافر حيث انّه قال بعد العبارات التي نقلناها آنفا: و هل يكفي الإقرار و التديّن الصوري في ترتيب أثر الإسلام من جواز المخالطة و المناكحة و التوارث أم يعتبر مطابقته للاعتقاد فلو علم نفاقه

و عدم اعتقاده حكم بكفره و امّا لو لم يعلم بذلك حكم بإسلامه نظرا الى ظاهر القول؟ وجهان لا يخلو أوّلهما عن قوّة كما يشهد بذلك معاشرة النبي مع المنافقين المظهرين للإسلام مع علمه بنفاقهم مضافا الى جملة من الاخبار بكفاية إظهار الشهادتين في الإسلام الذي به يحقن الدماء و يجرى عليه المواريث من غير إناطته بكونه ناشئا من القلب و انّما يعتبر ذلك في

______________________________

(1) سورة آل عمران الآية 19.

(2) سورة آل عمران الآية 85.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 148

الإيمان الذي به يفوز الفائزون و هو أخصّ من الإسلام الذي عليه عامّة الأمّة كما نطق بذلك الأخبار الكثيرة و شهد له قول اللّه عزّ و جلّ قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ. «1»

و نحن نتسائل و نقول: انّ الشاك الذي حكم قدّس سرّه في أوّل بحثه بكفره لظاهر الشرع هل هو الشاك المقرّ بالشهادتين أو غير المقرّ.

فان كان المراد هو الأوّل فكيف قوّى في العبارة الأخيرة كفاية الإقرار و التديّن الصوري في ترتيب أثر الإسلام.

و ان كان المراد هو الشاك غير المقرّ ففيه انّه لا اثر لشكّه لكفاية مجرّد عدم الإقرار بالشهادتين في الحكم بكفره.

و على الجملة فمع كفاية الشهادتين في الحكم بالإسلام الظاهري لا مجال للبحث في الشك أصلا فينبغي ان يقال: انّ من أقرّ بالشهادتين فهو مسلم ظاهري سواء كان معتقدا بهما في قلبه أو شاكا أو قاطعا بالخلاف و من لم يقرّ بهما فليس بمسلم و ان علمنا انّه معتقد واقعا.

و يشهد لذلك قوله تعالى وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «2» حيث انّ اللّه سبحانه عابهم و لا مهم بذلك و لو كان الاعتقاد قلبا و مجرّدا عن الإقرار

كافيا لما صحّ ان يعيبهم بهذه الكلمة الواردة في مقام اللوم و الذمّ.

و ممّا يجدر بنا ان نذكره في هذا المقام انّ ما ذكرنا من كفاية الإقرار بالشهادتين في الحكم بالإسلام مشروط بعدم إظهاره ما يخالف شهادته، و ما يكذّب إقراره، و الّا كان كافرا و لذا قال المحقّق في الشرائع عند ذكر النجاسات و عدّها: الكافر و ضابطه من خرج عن الإسلام أو من انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة انتهى.

______________________________

(1). مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 563.

(2). سورة النمل الآية 14.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 149

و على هذا فالكافر قسمان:

أحدهما: الخارج عن حدّ الإسلام من رأس.

ثانيهما: من انتسب الى الإسلام و أقرّ بالشهادتين لكن اتى بشي ء يكذّب انتحاله و هو إنكاره ما كان ضروريّا في الدين فإنّ إنكار ما كان من الدين بالضرورة تكذيب لشهادته بالرسالة و الّا فمن شهد انّ محمدا صلّى اللّه عليه و آله خاتم النبيّين، و مرسل من اللّه تعالى الى الخلق أجمعين، و انّه مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ «1» فكيف ينكر شيئا ثبت انّه ممّا جاء به قطعا- حيث انّه من الضروريّات- و هو عالم بذلك؟ و امّا الملاك و المعيار في كون شي ء ضروريّا فسنبحث فيه مستقلا إنشاء اللّه تعالى كما انّ البحث في كون الإمامة الّتي هي من المسائل المهمّة العريقة في الإسلام هل هي من الضروريّ ليكون إنكارها إنكارا للضروريّ و يلزم ردّ النصوص الواردة في أمير المؤمنين عليه السلام كما ذهب اليه صاحب الحدائق أو انّها ليست من الضروريّات بان يقال انّ هذا البحث من الأبحاث الحادثة بعد زمن النبي و النصوص الواردة فيها ليست متواترة

فهذا البحث بحث موضوعي لا حكمي نظير البحث في انّه لما ذا اقتصر العلماء في مقام المثال للكافر على ذكر منكر التوحيد أو الرسالة و لم يذكروا المعاد مع ذكره في القرآن الكريم مرارا قرينا بالايمان باللّه و هو ضروريّ من ضروريّات الإسلام بل من ضروريّات الأديان السماوية كلّها فمنكره منكر لكلّ الأديان الى غير ذلك من أمثال هذه المباحث فهي موكولة إلى مقام آخر و هو البحث في تعيين الموضوع و لعلّنا نبحث فيها أو في بعضها إنشاء اللّه تعالى.

ثمّ انّ في عبارة المحقّق المذكورة آنفا نوع إجمال فإنّه عند بيان الضابط الكلىّ للكفر قال: ضابطه من خرج عن الإسلام إلخ.

______________________________

(1). سورة النجم الآية 3 و 4.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 150

و المستفاد منها بلحاظ التعبير بالخروج لزوم كون الكفر مسبوقا بالايمان و هذا يقتضي كون الكافر الأصليّ خارجا عن تحت التعريف لانّه غير مسبوق بالإسلام و لا يصدق في حقّه انّه خرج عن الإسلام.

و لعلّه لرفع هذا الإجمال أو الإيهام و الاشكال فسّر السيّد صاحب المسالك قدّس سرّه العبارة بقوله: المراد بمن خرج عن الإسلام من بائنة كاليهود و النصارى و بمن انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة من انتمى اليه و أظهر التديّن به لكن جحد بعض ضروريّاته «1» انتهى كلامه رفع مقامه.

و على ما بيّناه فمعنى العبارة ان الكافر قسمان.

أحدهما: من لم يكن مسلما مقرّا و داخلا في حوزة الإسلام و على هذا فالمراد بمن خرج عن الإسلام هو غير المسلم سواء كان مسبوقا بالإسلام أم لم يكن كذلك و لم يعهد منه الإسلام أصلا.

ثانيهما: من كان منتحلا و مع ذلك كان منكرا للضروريّ.

و لعلّ هذا المعنى

و التفسير أقرب ممّا افاده سيّد المدارك و كيف كان يصرف النظر عن ظاهر لفظ الخروج، و قد تحقّق ان الحكم بالكفر دائر مدار أحد الأمرين أحدهما تحقّق نفس الكفر سواء كان مسبوقا بالإسلام أم لا و الآخر الانتحال إلى الإسلام مع إنكار الضروري.

كلمة اخرى حول الكفر

لا يخفى انّ للكفر- في الآيات و الروايات و كلمات العلماء- إطلاقات مختلفة:

______________________________

(1). مدارك الأحكام الطبع الجديد ج 2 ص 294.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 151

فتارة يطلق على منكر الصانع تعالى أو الرسالة مثلا.

و اخرى يطلق على تارك فريضة من الفرائض قال اللّه تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «1» فقد عدّ و اعتبر ترك الحج كفرا و تاركه كافرا.

و ثالثة يطلق و يراد به انّ المتّصف به يحشر في القيامة مع الكافرين و في زمرتهم.

و لكنّ المقصد فيما نحن فيه هو الحكم بالنجاسة على المتّصف به و هو تمام المراد و مطمح النظر و يؤل الأمر إلى تفسير الكافر هنا بمن يحكم عليه بالنجاسة و هو يدور مدار واحد من الأمرين المذكورين آنفا:

أحدهما: كون الإنسان خارجا عن حريم الإسلام و حوزة المسلمين بان لا يقرّ بالشهادتين كعبّاد الأصنام و اليهود و النصارى.

ثانيهما: الانتحال مع الإنكار و على ذلك يحكم بكفر الشاكّ الذي لا يقرّ و لا ينكر فهو بعدم إقراره بالشهادتين يكون كافرا.

نعم في بعض الاخبار ما لا يساعد ذلك حيث انّ الظاهر منه انّ الملاك في الكفر هو الجحد، و بما انّ الشاك ليس بجاحد فليس هو كافرا. و أهمّ هذه الاخبار و أظهرها روايتان:

إحديهما: رواية محمد بن مسلم قال: كنت عند ابى عبد

اللّه عليه السلام جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شكّ في اللّه؟ فقال: كافر يا أبا محمد قال: فشكّ في رسول اللّه (ص)؟

فقال: كافر، قال: ثم التفت الى زرارة فقال: انّما يكفر إذا جحد. «2»

______________________________

(1). سورة آل عمران الآية 97.

(2). الكافي ج 2 ص 399.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 152

ثانيتهما: رواية زرارة عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: لو انّ العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا. «1»

و حملهما المحقّق الهمداني على المعروفين بالإسلام المعترفين بالشهادتين إذا طرء في قلوبهم الشكوك و الشبهات الناشئة عن جهالتهم فهم لا يخرجون بذلك عن الإسلام ما لم يجحدوا ما شكّوا فيه و ليس المراد من لم يتديّن بدين الإسلام أصلا فإنّه كافر نجس. فراجع ما نقلناه من كلامه آنفا.

و قال المحدّث الفيض الكاشاني رضوان اللّه عليه في ذيل الرواية الأولى مبيّنا لها: يعنى انّه لا يكفر ما دام شاكّا فإذا جحد كفر أو انّ المراد بالشاك، المقرّ تارة و الجاحد اخرى و انّه كلّما أقرّ فهو مؤمن و كلّما جحد فهو كافر و الأوّل أظهر انتهى كلامه.

توضيحه انّ الشاكّ على الاحتمال الأوّل قسمان: أحدهما الشاك غير الجاحد ثانيهما الشاك الجاحد، فان جحد فهو كافر نجس و الّا فلا.

و على الاحتمال الثاني فالشاكّ يختلف حاله فتارة يقرّ و اخرى ينكر. و يدور الإسلام و الكفر مدار الجحد و الإقرار فهو في حين الإقرار مسلم و في حين الإنكار كافر. لكنّه رحمه اللّه استظهر الوجه الأوّل من الوجهين.

و ذكر العلّامة المجلسيّ قدّس سرّه هنا وجوها و احتمالات فقال: قوله عليه السلام لزرارة

إنّما يكفر إذا جحد يحتمل وجوها:

الأوّل: انّ غرضه الرّدّ على زرارة فيما كان بينه و بينه من الواسطة بين الايمان و الكفر لئلّا يتوهّم زرارة من حكمه (ع) بكفر الشاك في اللّه و الرّسول كفر الشاك في الإمام أيضا، بل ما لم يجحد الامام لا يكفر و يؤيّده الخبر الأوّل من

______________________________

(1). الكافي ج 2 ص 388.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 153

الباب الآتي. [1]

الثاني: ان يكون المراد انّ الشكّ في أصول الدين مطلقا انّما يصير سببا للكفر بعد البيان و اقامة الدليل و من لم تتمّ عليه الحجّة ليس كذلك فالمستضعف الذي لا يمكنه التميز بين الحقّ و الباطل و لم تتمّ عليه الحجّة ليس بكافر كما زعمه زرارة و قيل انّما ذلك في الشك في الرسول و امّا الشاك في اللّه فهو كافر لانّ

______________________________

[1]. مراده هو خبر هاشم صاحب البريد قال: كنت انا و محمد بن مسلم و أبو الخطاب مجتمعين فقال لنا أبو الخطّاب ما تقولون فيمن لا يعرف هذا الأمر؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر فقال أبو الخطّاب ليس بكافر حتّى تقوم عليه الحجّة فإذا قامت عليه الحجّة فلم يعرف فهو كافر فقال له محمد بن مسلم: سبحان اللّه ما له إذا لم يعرف و لم يجحد يكفر؟ ليس بكافر إذا لم يجحد قال: فلمّا حججت دخلت على ابى عبد اللّه عليه السلام فأخبرته بذلك فقال: انّك قد حضرت و غابا و لكن موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى فلمّا كانت الليلة اجتمعنا عنده و أبو الخطاب و محمد بن مسلم فتناول و سادة فوضعها في صدره ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم و نساءكم و

أهليكم أ ليس يشهدون ان لا إله إلّا اللّه؟ قلت بلى قال: أ ليس يشهدون انّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ قلت بلى قال: أ ليس يصلّون و يصومون و يحجّون؟ قلت بلى قال:

فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت لا قال: فما هم عندكم؟ قلت من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر قال:

سبحان اللّه اما رأيت أهل الطريق و أهل المياه؟ قلت بلى قال: أ ليس يصلّون و يصومون و يحجّون؟ أ ليس يشهدون ان لا إله إلّا اللّه و انّ محمّدا رسول اللّه قلت: بلى قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا، قال: فما هم عندكم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر قال: سبحان اللّه اما رأيت الكعبة و الطواف و أهل اليمن و تعلّقهم بأستار الكعبة قلت: بلى قال: أ ليس يشهدون ان لا إله إلّا اللّه و انّ محمدا رسول اللّه و يصلّون و يصومون و يحجّون؟ قلت بلى قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت لا قال: فما تقولون فيهم؟ قلت من لم يعرف فهو كافر قال: سبحان اللّه هذا قول الخوارج ثمّ قال: ان شئتم أخبرتكم فقلت انا: لا فقال: اما انّه شرّ عليكم ان تقولوا بشي ء ما لم تسمعوه منّا قال: فظننت انّه يديرنا على قول محمد بن مسلم كافي، ج 2 ص 401.

و هذا الخبر و ان كان فيه هاشم و هو مجهول الّا انّ نقل علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن ابى عمير يوجب توثيقه و قوله عليه السلام: هذا قول الخوارج. يعنى انّ قولك: هذا كافر يوافق قول الخوارج المعتقدين انّ من أنكر حكما من أحكام اللّه ضروريا كان أو غيره فهو

كافر.

و قد استشهد المجلسيّ بهذا الخبر على انّ البحث في مسئلة الإمامة كانت دائرة و شايعة بين أصحاب الأئمة و هم يبحثون حول من كان مسلما مقرّا لكنّه شكّ أو لم يعتقد أو أنكر واحدا من الأحكام و المقررات أو المعارف مثل الإمامة لا في الشاك غير المسبوق بالإسلام. منه دام ظله العالي.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 154

الدلائل الدالّة على وجوده أوضح من ان يشكّ فيها و لا ينكره الّا معاند مباهت.

الثالث: ما قيل المراد بالشّاكّ المقرّ تارة و الجاحد اخرى و انّه كلّما أقرّ فهو مؤمن و كلّما جحد فهو كافر.

الرابع: انّ المعنى انّ الشكّ انّما يصير سببا للكفر إذا كان مقرونا بالجحود الظاهري و الّا فهو منافق يجرى عليه أحكام الإسلام ظاهرا. «1»

و على اىّ حال فلا شبهة في ظهور الروايتين في إناطة الكفر بالجحود و توقّفه عليه و عدم البأس بمجرّد الشك ما لم يكن مقرونا بالإنكار كما انّ رواية هاشم البريد المذكورة آنفا ايضا ظاهرة في هذا، فإذا أقرّ بالشهادتين و شكّ بعد ذلك فهذا الشك غير ضارّ أصلا بل و اليقين بالعدم ايضا لا يضرّ الى ان يجحد صراحة فهناك يضرّ و يكون كافرا بذلك، و على هذا فلا واسطة في البين، و هذا هو الذي يظهر من الروايات الواردة في مقام الفرق و التميز بين الإسلام و الايمان، و إليك منها ما يلي.

عن سماعة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أخبرني عن الإسلام و الايمان اهما مختلفان؟ فقال: انّ الايمان يشارك الإسلام، و الإسلام لا يشارك الايمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الإسلام شهادة ان لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام و ما ظهر من العمل به، و الايمان ارفع من الإسلام بدرجة، انّ الايمان يشارك الإسلام في الظاهر و الإسلام لا يشارك الايمان في الباطن و ان اجتمعا في القول و الصفة. [1]

______________________________

[1]. الكافي ج 2 ص 25. أقول: و في مروج الذهب للمسعودي ج 4 ص 171 حدّثني محمد بن

______________________________

(1). مرآت العقول الطبعة القديمة ج 2 ص 389 و الطبعة الجديدة ج 11 ص 183.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 155

و حيث انّ هذه الرواية موثّقة، و قد عمل بها الأصحاب، فجدير ان نقف هنا و نبحث فيها فنقول: هي صريحة في إمكان تحقّق الإسلام بدون الايمان و عدم إمكان العكس، فيمكن ان يكون الإنسان مسلما و لا يكون مؤمنا، و لا عكس و ليس هذا الّا لأجل دوران الإسلام مدار الإقرار بالشهادتين، فهناك يحلّ المناكحة و يجرى المواريث و يحفظ الأموال و يصان الاعراض و يحقن الدماء و يحكم بطهارة البدن الى غير ذلك من الأحكام كحليّة الذبيحة. و امّا الإيمان فهو درجة رفيعة فوق ذلك.

و على الجملة فالرواية في إفادة هذا التفاوت و ارفعيّة الايمان من الإسلام بمثابة من الوضوح لا تكاد تخفى و انّما البحث و الكلام في المقام في توجيه ترتّب الأحكام المذكورة على الإقرار بالشهادتين فنقول: هنا ثلاث احتمالات:

أحدها: كون الإقرار طريقا محضا الى عقد القلب و اعترافه الباطني فالمقرّ بالشهادتين كائنا من كان و لو كان غير معتقد بالقلب واقعا يجب على المسلمين ان يعاملوه معاملة المسلم المسلم بمجرّد الإقرار، ما

لم يعلموا كذبه، و

______________________________

الفرج بمدينة جرجان في المحلّة المعروفة ببئر ابى عنان قال: حدّثني أبو دعامة قال: أتيت على بن محمّد بن على بن موسى عائدا في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة فلمّا هممت بالانصراف قال لي يا أبا دعامة قد وجب حقّك أ فلا أحدّثك بحديث تسرّ به؟ قال: فقلت: ما أحوجني الى ذلك يا ابن رسول اللّه قال: حدّثني أبي محمد بن علىّ قال: حدّثني ابى علىّ بن موسى قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمّد بن على قال: حدّثني ابى على بن الحسين قال: حدّثني ابى على بن ابى طالب رضى اللّه عنهم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اكتب يا على، قال: فقلت: و ما اكتب؟ قال لي: اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم الايمان ما وقرته القلوب و صدّقته الأعمال، و الإسلام ما جرى به اللسان و حلّت به المناكحة، قال أبو دعامة: فقلت: يا ابن رسول اللّه ما أدرى و اللّه أيّهما أحسن الحديث أم الاسناد؟ فقال: انّها لصحيفة بخطّ علىّ بن ابى طالب بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نتوارثها صاغرا عن كابر.

و رواه المجلسي قدّس سرّه ايضا عنه في بحار الأنوار طبع بيروت ج 50 ص 208.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 156

عدم اعتقاده في الباطن، و يجب عليهم ان يتّخذوا إقراره طريقا الى تحقّق الاعتقاد في ضميره، و اعتضاد إقراره باللّسان بإذعانه بالجنان، نظير اتّخاذ الأذان طريقا الى تحقّق الوقت و امارة على دخوله، و على ذلك فلو علم كذبه و نفاقه فإقراره لا

ينفع شيئا.

ثانيهما: ان يكون موضوعا طريقيا و على هذا فلا يحكم بإسلامه إلّا إذا اجتمع الإقرار و العقيدة و تقارنا و بعبارة أخرى اللازم تحقّق اللفظ نفسه بعنوان انّه طريق الى عقد القلب و إذعان الضمير و تسليم النفس.

ثالثها: ان يكون موضوعا محضا و لازم ذلك هو الحكم بالإسلام و جريان أحكامه بمجرّد اللفظ و محض الإقرار.

و لا يخفى انّ الظاهر من بين هذه الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأخير، ألا ترى انّه عليه السلام قال: به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث؟ و لو لا انّ المؤثّر التّامّ و السبب الوحيد في جريان تلك الأحكام هو نفس الإقرار لما استقام اللفظ و لما صحّ التعبير بقوله: (به) و كذا التعبير بقوله:

(عليه).

و يؤيّده قوله عليه السلام: و على ظاهره جماعة الناس. اى سواد الناس و العدّة الوافرة، فإنّ الجماعة و سواد الناس- الّا نزر يسير و فرقة قليلة- كانوا يقرّون بتوحيد اللّه و رسالة النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لكنّهم اتّبعوا ائمة الضلال و انحرفوا عن ولاية العترة الطاهرة و الأئمة من آل محمد عليهم السلام.

و يشهد على ذلك ايضا الحكم بإسلام المنافقين في الصدر الأوّل المعلوم حالهم، بحيث ورد في حقّ بعضهم: انّه لم يؤمن باللّه طرفة عين، و كان النبي يساورهم، و ما كان يجتنب عنهم، و كان يباشرهم مع الرطوبة و يناكحهم و يوارثهم و يعامل معهم معاملة المسلمين و كان يكتفي من الكفّار بكلمتي الشهادة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 157

و يحكم بإسلامهم و هذا هو الدليل القاطع و البرهان القوىّ الدّالّ على انّ تمام الملاك في تحقّق الإسلام و ترتّب أحكامه هو

الإقرار و ان علم انّه شاكّ بل و ان علم انّه غير معتقد أصلا كالمنافق المظهر للإسلام و المبطن للكفر.

و على هذا فالبالغ العاقل غير المستضعف لو لم يقرّبا لشهادتين لا يكون مسلما، و لذا يلقّن ولد الكافر عند بلوغه الشهادتين فإن أقرّ و اعترف فهو مسلم و الّا فيحكم بكفره.

و امّا عدم لزوم تلقين ولد المسلم عند البلوغ أو التميز، و الحكم بإسلامه بلا توقف على الإقرار، فهو لأجل وجود الأمارة الظاهرة في كونه مسلما فإنّه نشأ و نمى في محيط دينيّ و بيئة طيّبة و ربّي في جوّ الإسلام و عند أبوين مسلمين و منذ خرج من بطن امّه و فتح عينيه لم ير و لم يشاهد الّا المناظر الإسلاميّة و لم يقرع سمعه الّا أصوات قرّاء القرآن و نغمات المؤذّنين بالأذان.

و اهتمام المسلمين و لا سيّما الشيعة الموالين لآل الرسول بتربية أولادهم و المواظبة على حالهم ليتعلّموا معالم دينهم و يتأدّبوا بآداب الإسلام أمر لا يحتاج الى البيان، لانّه بمكان من الوضوح و العيان فهذا هو الرجل الشيعي يرى ولده يقع على الأرض أو يسقط من شاهق أو من مكان عال أو يراه يريد ان يقوم من موضعه و مقامه فيلقّنه الاستمداد من اللّه تعالى و من أوليائه و يعلّمه التوجه الى المبادئ العالية و يقول له: ولدي قل: يا اللّه، أو قل يا علىّ، و أمثال تلك التلقينات الطيّبة فإذا تعلّم الصبيّ من والديه الاستنصار من اللّه تعالى و الاستشفاع اليه من الأولياء و الأئمة الطاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين فلا بدّ من كونه مقرّا بالشهادتين و مذعنا معتقدا بهما و عارفا باللّه و رسوله بل خلاف ذلك كاد ان يكون

محالا عاديّا.

و هذا بخلاف ولد الكافر الذي نشئ على الكفر و الضلال، و المفاهيم

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 158

الخاطئة، و العقائد الفاسدة الكاسدة، و لم يشمّ منذ ولادته رائحة الإسلام و لا يزال من بدع طفوليته الى سنين رشده سمع و شاهد إلحاد الملحدين و تشكيك الضالّين المضلّين و حثّه الأبوان على الجحود و الإنكار و الزندقة و الإلحاد و كان طوال هذه المدّة تحت تبعيّة الكافر فلا بدّ من ان يتأثّر بالسموم المبثوثة الالحادية في تلك البيئة المظلمة بل هو معلوم النهاية من مطلع البداية فالحكم بإسلامه رهين الإقرار بالشهادتين و موقوف عليه فان أقرّ و دان بكلمة الإسلام فنعم المطلوب و الّا كان كافرا نجسا مهدور الدم هذا.

و قد تحصل من جميع ما قرّرناه في هذا المضمار انّه ليس الإسلام شيئا سوى تسليم الإنسان للشهادتين و الإقرار بهما و سيجي ء في الأبحاث الآتية مزيد توضيح و ما ينفع لهذا البحث إنشاء اللّه تعالى فانتظر.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 159

حول إنكار الضروريّ

ثم انّك قد علمت انّه يدخل في ضابط الكافر من أنكر ضروريّا من ضروريّات الدين و ان كان بحسب الظاهر مسلما مقرّا بالشهادتين و قد صرّح العلماء رضوان اللّه عليهم أجمعين بذلك كما قال المحقّق في عبارته المتقدّمة: و ضابطه من خرج عن الإسلام أو من انتحله و جحد ما يعلم من الدين ضرورة إلخ و مثله ايضا كلمات الآخرين و لا خلاف في ذلك ظاهرا بل هو من المسلّمات.

و انّما المهمّ هو انّ إنكار الضروري بنفسه و من حيث هو سبب مستقلّ للكفر تعبّدا [1] أو لأنّه كاشف عن إنكار النبوّة و راجع الى تكذيب النبي صلّى اللّه

______________________________

[1]. أقول: قال المحقّق الهمداني في طهارته ص 566: انّ القول بالسببيّة صريح بعض و ظاهر آخرين بل ربّما استظهر من المشهور انتهى و لكنّه رحمه اللّه خالف هذا الرأي و قال في ص 567: انّه لا دليل على سببيّة الإنكار من حيث هو الكفر.

و قال في مفتاح الكرامة ج 1 ص 143: و هنا كلام في انّ جحود الضروري كفر في نفسه أو

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 160

عليه و آله و العدول و الانصراف عن الإقرار بالشهادتين و كونه نقضا لإقراره؟ و قد تشعبّت في ذلك أقوال المحقّقين و ذهب الى كلّ فريق و الظاهر عندنا هو الوجه الثاني و يمكن ان يقال: انّ إنكار الضروريّ بمجرّده غير ملازم لتكذيب النبي و إنكار الشريعة توضيحه انّ من كان بعيد الدار عن حوزة نفوذ الإسلام و المسلمين و قاطنا في بلاد الكفر و لالحاد فصادفه مسلم و دعاه الى الإسلام و لقّنه الشّهادتين فأثّرت هذه الدعوة و نفذت فيه فأقرّ بالشهادتين ثمّ امره المسلم بالصلاة- التي لا شكّ في كونها ضروريّة في الإسلام و لا مرية فيه أبدا- فأبى منها و أنكرها أشدّ الإنكار فهل ترى من نفسك انّ إنكار جديد إسلام مثل هذا تكذيب للنبي و الحال انّه بعد لا يعرف الضروريّ مفهومه، و مصاديقه، و عدده، و ليس عارفا بحقيقة الصلاة و عظمها و مبلغ اهتمام الشارع بها و هل يمكن الحكم بكفره و الحال هذه؟ اللّهمّ الّا ان يقال انّها ليست ضروريّة بالنسبة إليه فإنّ الضروري الذي يكفر منكره هو ما ثبت عنده يقينا كونه من الدين.

و قد قيّده بعضهم بما إذا لم يكن إنكاره عن شبهة طارئة عليه و

الّا فهو لا يوجب الكفر و كأنّه قيل: من أنكر الضروريّ عالما بكونه ضروريّا فهو كافر لأنّ الإنكار مع هذه الخصوصيّة ملازم للتكذيب قهرا و لا ينفكّ عنه جدّا.

لكن هذا ايضا لا يخلو عن المناقشة حيث انّه قد يتّفق ان المنكر ينكر ما يعلم كونه ضروريّا بلا التفات أصلا إلى كون إنكاره هذا تكذيبا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يرد ايضا على قولهم برجوع الإنكار إلى التكذيب انّه لو كان الملاك هذا لجرى ذلك في كلّ ما علم انّه من الدين و ان لم يكن ضروريّا فانّ من الممكن

______________________________

يكشف عن إنكار النبوة مثلا ظاهرهم الأوّل و احتمل الأستاد الثاني قال فعليه لو احتمل وقوع الشبهة عليه لم يحكم بتكفيره الّا انّ الخروج عن مذاق الأصحاب ممّا لا ينبغي انتهى.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، در يك جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار؛ ص: 161

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 161

إنكار حكم ثبت عند منكره انّه من الدين و يتحقّق التكذيب بذلك مع عدم كونه ضروريا فلو كان الملاك هو التكذيب فلما ذا خصّوا الضروريّ بالذكر و ما وجه التخصيص؟.

و التحقيق انّ إنكار الضروري يتصوّر بحسب مقام الثبوت على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: الموضوعيّة في الحكم بالكفر فكما انّه يحكم بكفر من جحد إله العالم و أنكر النبوّة كذلك يحكم بكفر من أنكر ضروريا من ضروريّات الدين بمجرّد إنكاره نظير كون الإقرار بالشهادتين موضوعا للحكم بالإسلام و ترتّب أحكامه على المقرّ بهما فمنكر الضروري كافر لا من حيث كفره الباطني و علمنا بأنّه كافر واقعا بل هو كافر و

لو لم نعلم حاله و لم يثبت لدينا كفره الباطني بل و ان علمنا انّه كاذب في إنكاره و انّه مؤمن واقعا فعلى الموضوعيّة المحضة يحكم عليه بالكفر لعلّة إنكار الضروري وحده الّا من اضطرّ اليه أو أكره عليه مع الايمان الرصين كما قال اللّه تعالى في حكاية عمّار إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ. «1»

الثاني: ان يكون إنكار الضروري موجبا للكفر لكونه كاشفا عن إنكار الرسالة و تكذيب النبي الأمين و نقضا تفصيليّا لمّا أقرّ به إجمالا فهما كالمتلازمين عقلا و على هذا فلو شكّ في انّه مكذّب واقعا و احتمل خلاف ما نطق به مع انّه منتحل إلى الإسلام و مقرّ بالشهادتين فلا يكون إنكاره سببا للحكم بكفره نظير ما ورد من انّ الحدود تدرء بالشبهات.

هذا إذا كان قد احتمل في حقّه عدم التكذيب فكيف بما إذا علم انّه ليس بمكذّب و انّه ليس بصدد إنكار الرسالة و لا يريد ذلك أصلا فهو ينكر امرا خاصّا

______________________________

(1). سورة النحل الآية 106.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 162

سواء كان لأجل عدم علمه بكونه ضروريّا أو لغير ذلك من الجهات.

الثالث: ان يكون موجبا للكفر لا بما هو موضوع له و لا بما هو كاشف واقعي عنه بل من جهة الكشف التعبديّ عنه فيكون نظير الطرق التي يعمل بمقتضاها و يلغى معها احتمال الخلاف ما لم يقطع بخلافها كما إذا قامت البيّنة على تذكية حيوان مثلا و احتمل عدم التذكية لجهة خارجيّة فإنّ هذا الاحتمال ملغى في نظر الشارع، و على هذا فيحكم بكفر منكر الضروريّ ما لم يعلم و لم يقطع منه عدم التكذيب سواء علمنا جزما انّه مكذّب أو احتملنا ذلك في

حقّه فإنّ إنكاره طريق تعبديّ يعمل على طبقه بلا اعتبار لاحتمال عدم إرادته التكذيب فإنّه ملغى و لا يؤثّر في رفع الحكم بالكفر، الا ترى انّه لو أقرّ مقرّ بالقتل أو الدين فهو مأخوذ بإقراره و لا يعتنى إلى احتمال إرادته خلاف ظاهر إقراره.

و الحاصل: انّه إذا حكم بكفر منكر الصانع و مكذّب الرسول فلا فرق فيه بين الإنكار صريحا أو بالدلالة الالتزاميّة و معلوم انّ منكر الضروريّ يكذّب النبيّ التزاما.

و الفرق بين الاحتمالين الأخيرين- كالفرق بينهما و بين الاحتمال الأوّل- لا يكاد يخفى على من لاحظ الوجهين فانّ مقتضى الوجه الأوّل منهما الحكم بكفره في صورة واحدة لأنّه إذا احتمل في حقّه عدم التكذيب أو قطع بذلك فلا يحكم عليه بالكفر بخلاف الأخير منهما فإنّه يحكم عليه بالكفر في صورتين اعنى ما إذا احتمل في حقّه التكذيب و ما إذا علم انّه مكذّب فتبقى صورة واحدة لا يحكم فيها بالكفر و هي ما ذا علم جزما انّه ليس مكذّبا هذا.

و امّا في مقام الإثبات فنقول:

امّا الاحتمال الأوّل: فإثباته غير ممكن الّا ان يكون هناك إجماع و يتمسّك القائل بالموضوعيّة، به بعد التتبّع البالغ، و الاستقصاء الكامل، و الوقوف على

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 163

كلماتهم، و موافقتهم على ذلك.

و لكن لا يخفى انّ استفادة ذلك من كلماتهم في غاية الإشكال فإنّها ليست على نسق واحد فترى انّ بعضا منهم يقيّد إنكار الضروري بعدم شبهة طارئة له و لا أقلّ من كون هذا البعض مخالفا فإنّه لا يساعد كون الإنكار كيف كان- و لو عن شبهة بل و لو كان ناشيا عن الجهل المركّب- سببا للحكم بالكفر.

و امّا الاحتمال الثاني: فإثباته بدليل العقل

بادعاء التلازم بين الإنكار و التكذيب، و هو غير بعيد.

و امّا الثالث: و هو أقرب الاحتمالات فدليله الشرع، و هو الذي تعرب عنه كلمات الاعلام، و على هذا فما كان من إنكار الضّروريّات مستلزما لتكذيب النبي و كاشفا عنه، فإنكاره موجب للكفر، و دليل كفره هو دليل كفر تكذيب النبي فمنكر الضّروريّ كافر، كما انّ منكر الباري و مكذّب النبيّ كافر، و التفكيك بينهما، و القول بأنّ مكذّب النبي كافر و لكن منكر الضروري ليس بكافر في محلّ المنع و كيف لا و الحال انّه أنكر حكما ثابتا من أحكامه و شعيرة قطعية من شعائره.

ان قلت: انّ هذا ينافي ما قاله العلماء من انّ الالتزام بكلّ الأحكام ليس واجبا.

نقول: لا تنافي بينهما أصلا فإنّ معنى كلامهم قدّس اللّه أسرارهم عدم وجوب الالتزام به تفصيلا لا مطلقا حتّى الإجمالي منه فإنّه واجب بلا كلام بل الإقرار بالشهادتين هو الالتزام بالأحكام كلّها إجمالا.

و على الجملة فلا شكّ في كفر من أنكر الضروريّ غاية الأمر انّه يعتبر فيه الكشف عن كونه مكذّبا كمن نشأ في بلاد الإسلام و عاش طوال حياته مع المسلمين و حضر أنديتهم و شهد مجامعهم فانّ تلك الأمور تلازم عادة علمه

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 164

بكون حكم كذا من أحكام الإسلام و ضروريّاته فلو أنكره فهو تكذيب لا محالة امّا لو كان ساكنا في بلاد الكفار أو قاطنا في البلدان النائية محروما و مبتعدا عن مجالس المسلمين و مجالستهم، لا صلة له بهم، و لا رابطة بينه و بينهم، و كان مسلما بعيدا عن حقائق الإسلام، بسيطا يجهل الآداب و المعارف الدينيّة، و لا حظّ له في الثقافة الإسلاميّة، قد أضلّه

زنديق و لقّنه مثلا بأنّ الصلاة الواجبة علينا هي الدعاء لا الأركان المخصوصة، و لا يجب عند أوقات الصلاة سوى قراءة دعاء كذا أو ذكر كذا ك ناد عليّا مظهر العجائب. فتأثّر هذا المسلم البسيط بهذه الأباطيل الفاضحة، و البدع و الخرافات الواهية حتّى أنكر الصلاة المعهودة، فإنّ إنكاره هذا ليس تكذيبا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و إنكارا للشريعة و لا يوجب الكفر و النجاسة، و هو بعد رجل مسلم، مؤمن باللّه و رسله، و آياته و كتبه.

و بهذا البيان ترتفع المناقشة في المقام بأنّ المنكر للضروريّ ربّما لا يلتفت حين إنكاره إلى كون إنكاره تكذيبا للنبي و إنكارا للرسالة المحمديّة صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّا ذكرنا انّه يوجب الكفر للكشف التعبديّ عن التكذيب فإذا علمنا انّه غير ملتفت الى ذلك فإنكاره لا يوجب الكفر.

نعم يبقى المناقشة بعدم الفرق بين إنكار الضروري و إنكار غير الضروري من الأحكام فانّ الملاك لو كان هو التكذيب فهو جار في غير الضروري أيضا من الأحكام المعلومة الصدور عن النبي كما إذا سمع حكما عن النبي أو الإمام فأنكره فهو تكذيب له و يصير كافرا بذلك مع انّ الحكم ليس بضروريّ.

لكنّ الإنصاف أنّ بينهما فرقا واضحا و هو انّه في الضروري يحكم عليه بالكفر لكونه مكذّبا فلا حاجة الى شي ء آخر غير نفس الإنكار بخلاف غير الضروريّ فإنّ إنكاره بمجرّده لا يوجب الكفر لعدم كشفه عن التكذيب فربّما يكون منكرا له و إذا قلنا له أنكرت حكم الإسلام يعتذر بأنّ النبي لم يقل بذلك

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 165

فهذا في الحقيقة تكذيب لنا لا للنبي فإثبات كونه مكذّبا منوط بأمر آخر

و هو إقراره بنفسه و اعترافه بأنّه يكذّب الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و بعبارة أخرى المدار في الحكم غير الضروري على حصول العلم بأنّ المنكر مكذّب للنبي و منكر للرسالة بخلاف الضروري فإنّه بنفسه دالّ على ذلك.

لكن يبقى اشكال آخر في المقام و هو انّ العلماء رضوان اللّه عليهم أجمعين مع تقييدهم إنكار الضروري بعدم كونه ناشئا عن الشبهة كما هو الحق أطلقوا المثال فإنّهم مثّلوا لمنكر الضروري بالغلاة و الخوارج من دون تقييدهم المثال بعدم الشبهة كما رأيت ذلك في عبارة المحقّق الّتي ذكرناها سابقا و الحال انّ الغلوّ في حقّ الأئمة عليهم السلام أو الخروج عليهم ربما ينشئان عن الشبهة أيضا، و الولاية أو الوصيّة مع انّها من الأمور الثابتة العريقة في الإسلام الّتي نصّ عليها القرآن العظيم، و أكّد عليها النبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله شديدا، و المودّة المفروضة في القرآن لا غبار عليها و لا ارتياب، و وجوب احترامهم و حرمة إهانتهم ممّا نطق به الكتاب، قال اللّه تعالى قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ «1» الى غيرها من الآيات كآية يوم الغدير [1] الّا انّها مع ذلك كلّه قابلة لان يشتبه فيها الأمر على بعض التابعين أو تابعي التابعين ممّن لم يدركوا عصر رسول اللّه الذهبي لا سيّما بلحاظ موقعية أمر الولاية الخطيرة و اهميّتها الخاصة و وجود دواع كثيرة- من الحكّام المخالفين للعترة الزاكية و مهابط الوحي- على تشويه الأمر و تلبيسه على الناس و إبعادهم عن وليّ اللّه علىّ عليه السلام و الطاهرين من ذرّيّته، و خذلان العترة الطاهرة، بشتى الوسائل، و من ثمّ لم يدعوا

______________________________

[1]. يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا

أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ، سورة المائدة الآية 68 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلٰامَ دِيناً سورة المائدة الآية 3.

______________________________

(1). سورة شورى الآية 23.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 166

أيّ فرصة في ذلك.

اما كان معاوية الطاغية يدعو الناس دائما على الاعراض عن أمير المؤمنين؟ أ لم يكن يتّهمه بأنواع الاتهامات حتّى قال انّه لا يصلّى؟ فكلّ من سبر تأريخ الإسلام يعرف و يعلم انّ دين معاوية و ديدنه هو إلقاء ما يمسّ كرامة ساحة أهل البيت و ما ينفي محاسنهم لا سيّما بالنسبة الى الامام على عليه السلام فلم يزل دائبا على الوقيعة فيه و الحطّ من كرامته و إلصاق كلّ تهمة به و بذل كل جهده و امكانياته في ذلك و كان بنفسه قد أفصح بلسانه و أعرب بلفظه عن عقيدته المشئومة الّتي هي إلقاء بذر عداوة وصيّ الرسول في قلوب الأمّة الإسلامية بقوله- في جواب قوم من بنى أمية قالوا له: انّك قد بلغت ما أمّلت فلو كففت عن لعن هذا الرجل-: لا و اللّه حتّى يربو عليه الصغير و يهرم عليه الكبير و لا يذكر له ذاكر فضلا «1» و كان ذلك أسلوبه حتّى ان هلك و مات فآل الأمر الى ان ظهر النصب و العداوة في عصره و انتشر بغض علىّ و غيره من آل محمّد في أيّامه، و تقرّب الناس بذم آل الرسول طلبا لرفده و عطاياه، و طمعا في صلته و جوائزه، أو خوفا من قتله و نهبه و أسره و تنكيله فراجع التاريخ.

و نزيد

على ذلك سؤالا آخر و هو انّه اما ورد في التاريخ تقديم نذور عديدة و قرابين كثيرة من فلان و فلان عند قتل الحسين عليه السلام؟ [1] أ لم يبنوا مساجد فرحا بقتل سيّد الشهداء؟ [2]

______________________________

[1]. أقول روى المسعودي في مروج الذهب ج 3 ص 152 و ابن ابى الحديد في شرح النهج ج 4 ص 61 انّ عبد اللّه بن هاني و هو رجل من أود قال عند ذكر مفاخره لحجّاج: و ما منّا امرأة إلّا نذرت ان قتل الحسين ان تنحر عشر جزائر لها ففعلت قال الحجاج: و هذه و اللّه منقبة.

[2]. أقول: في الوسائل ج 3 الطبع الحديث ص 520: عن ابى جعفر عليه السلام قال: جدّدت أربعة مساجد بالكوفة فرحا لقتل الحسين عليه السلام مجد الأشعث و مسجد جرير و مسجد سماك و مسجد شبث بن ربعي لعنهم اللّه.

______________________________

(1). شرح نهج البلاغة الحديدى ج 4 ص 57.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 167

و إذا كان كذلك فأيّ بعد في ان يتأثّر البعض في هذه الأجواء المظلمة بتلك المفاهيم الخاطئة و الإلقاءات المضلّة و يقطع بها و يتداخل بغض علىّ عليه السلام في قلبه، و هل يمكن القول بأنّ كل ما وقع و ما صدر عن الناس بعد قتل الحسين من الفرح و السرور، و الصدقات و النذور، كان عن تفهّم و شعور؟.

و مجمل الكلام انّ كثيرا منهم و لا أقلّ من بعضهم كان قد اشتبه عليه الأمر فقال ما قال و اتى بما اتى في تلك الظروف الخاصّة، و على هذا فكيف يطلقون كفر الخوارج مثلا مع انّهم ربّما يقيّدون إنكار الضروري الموجب للكفر بعدم كونه عن شبهة فانّ ظاهر

إطلاق المثال يعرب عن موضوعيّة الإنكار في اقتضاءه الكفر كإنكار الصانع، و الحال ان مقتضى ظاهر تقييد بعض إنكار الضروري بعدم الشبهة، طريقيّته للتكذيب.

و قد تصدّى علم التحقيق و التقى الشيخ المرتضى قدّس سرّه للجواب عنه و ملخّص كلامه انّ الإسلام شرعا و عرفا عبارة عن التديّن بهذا الدين الخاص الذي يراد منه مجموع حدود شرعيّة منجزة على العباد كما قال اللّه تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ. فمن خرج عن ذلك و لم يتديّن به كان كافرا غير مسلم سواء لم يتديّن به أصلا أو تديّن ببعضه دون بعض اىّ بعض كان. ثم استشهد بصحيحة أبي الصباح الكناني «1» و قال بعد ذلك: فهذه الرواية واضحة الدلالة على انّ التشرّع بالفرائض مأخوذ في الايمان المرادف للإسلام كما هو ظاهر السؤال و الجواب. ثم ذكر مكاتبة عبد الرحيم «2» و صحيحة عبد اللّه بن سنان «3» و أشار بعدها إلى رواية مسعدة بن صدقة «4» ثم ذكر صحيحة بريد العجلي «5» و قطعة من رواية

______________________________

(1). الكافي ج 2 ص 33 الحديث 2.

(2). وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 18.

(3). وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 10.

(4). وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.

(5). الكافي ج 2 ص 397 باب الشرك ح 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 168

سليم بن قيس الهلالي و أشار بعدها الى روايات أخر دالة ايضا على كفر منكر شي ء من الدين و استثنى- تبعا للأخبار الواردة- الجاهل بالحكم.

ثم حمل ما دلّ من النصوص و الفتاوى على كفاية الشهادتين في الإسلام على حدوث الإسلام بهما

ممّن ينكرهما من غير منتحلي الإسلام إذ يكفي منه الشهادة بالوحدانيّة و الشهادة بالرسالة المستلزمة للالتزام بجميع ما جاء به النبي و تصديقه في ذلك إجمالا و هذا لا ينافي كون عدم التديّن ببعض الشريعة أو التديّن بخلافه موجبا للخروج عن الإسلام.

ثمّ قسّم عدم التديّن ببعض الشريعة أو كلّها الذي هو سبب في الخروج عن الدين إلى أقسام فقد يرجع الى عدم الانقياد للّه بان يعلم مجي ء النبي به و يعلم صدقه في ذلك الّا انّه لا يتديّن بذلك عصيانا بحيث لو أوجب اللّه عليه ذلك من غير واسطة لأبي عنه و امتنع نظير كفر إبليس لعنه اللّه و قد يرجع الى إنكار صدق النبي كمن أنكر شيئا من الدين مع علمه بأنّ النبي جاء به، و صرّح رضوان اللّه عليه بعدم الإشكال في كفر هذين القسمين الّا انّ تكفيرنا له متوقّف على علمنا بعلمه المذكور سواء نشأ علمنا من الخارج أو من جهة إقراره أو من جهة كون المنكر- بالفتح- ضروريّا لا يخفى على مثل هذا الشخص الذي نشأ بين المسلمين فعلمنا من ذلك بضرورية المنكر- بالفتح- لا دخل له في كفر المنكر، و انّما له دخل في تكفيرنا إيّاه، حيث انّه لا سبيل لنا غالبا الى العلم بعلم المنكر الّا من جهة كون المنكر- بالفتح- ممّا لا يخفى على مثل المنكر ممّن نشأ بين المسلمين. و قد لا يرجع إنكاره إلى شي ء من العنوانين كمن أنكر شيئا من الدّين بدعوى عدم مجيئ النبيّ به أو مجيئه بخلافه، بحيث يعلم أو يحتمل انّ ذلك ليس لأجل تكذيب النبي، كما انّ كثيرا من الخوارج و النواصب و المتدينين ببعض ما هو مخالف

نتائج الأفكار في

نجاسة الكفار، ص: 169

لضروريّ الدين من هذا القبيل أو ظنّا أو احتمالا بل ربّما يعدّون المخالف له خارجا عن الدين فيتقرّبون الى اللّه ببغضه و عداوته.

قال رحمه اللّه: فاللازم على من استند في كفر منكر الضروري إلى رجوع إنكاره الى تكذيب النبي ان لا يحكم بكفرهم من غير تفرقة بين كون هذا الإنكار ناشئا عن قصورهم أو عن تقصيرهم غاية الأمر مؤاخذة المقصّر على ترك التديّن بما أنكره لو كان إنكاره متعلّقا بالعقائد كالمعاد و نحوه و الّا فالعمليّات لا عقاب فيها الّا على ترك العمل فمنكر حرمة الخمر لا دليل على عقابه الّا على نفس شرب الخمر لو شربها لعدم قصد الشارع الى التّديّن تفصيلا بالأحكام العمليّة أوّلا و بالذات.

ثمّ قال: لكنّ الإنصاف انّ هذا القول مخالف لظاهر كلمات الفقهاء في حكمهم بكفر منكر الضروريّ على الإطلاق بل مقابلته لإنكار الرسالة و في حكمهم بكفر الخوارج و النواصب معلّلين بانكارهم للضروري مع ما هو المشاهد من كثير من هذه الفرق الخبيثة و انّهم يتقرّبون الى اللّه بذلك و لا يحتمل في حقّهم رجوع إنكارهم لحقّ أمير المؤمنين و الأئمة صلوات اللّه عليهم إلى إنكار النبي و تكذيبه مضافا الى مخالفته لإطلاقات الأخبار المتقدّمة في حصول الكفر باستحلال الحرام و تحريم الحلال. مع ما عرفت من انّ عدم التديّن ببعض الدين يوجب الخروج عن الدين.

أقول: انّه قدّس سرّه عدل في هذه القسمة من كلامه عمّا ذهب اليه- من التفصيل بين موارد الإنكار و اقسامه و الحكم بعدم كفر الثالث منها- و مال الى ما حقّقه أوّلا من انّ عدم التدين و لو بحكم من الأحكام يوجب الكفر الى ان قال: و الحاصل انّ المنكر

للضروري الذي لا يرجع إنكاره إلى إنكار النبي امّا ان يكون قاصرا و امّا ان يكون مقصّرا و على التقديرين فامّا ان يكون الضروري الذي

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 170

أنكره اعتقادا من العقائد كالمعاد و امّا ان يكون فعلا كالالقاء المصحف في بعض الأمكنة و امّا ان يكون قولا كسبّ النبي و ان كان الفاعل يعتقد كون ذلك حراما في الشريعة إذ ليس المأخوذ في الدين التديّن بحكمه بل التديّن بترك عمله فهذه أقسام ستّة. ظاهر إطلاق النصوص و الفتاوى خصوصا إجماعهم على كفر الخوارج و النواصب مستدلّين بانكارهم للضروري حيث انّ عموم كلامهم للقاصر و المقصّر من هذه الفرقة الخبيثة ليس بأولى من عمومه للقسمين من اليهود و النصارى، الحكم بكفر جميعهم.

ثم رجع و عدل عمّا ذكره و قال: الّا انّ الإنصاف انّ في شمول الأخبار المطلقة المتقدّمة الدالّة على حصول الكفر بالاستحلال للقاصر نظرا ظاهرا و منع وجود القاصر في الكفّار كلام آخر و امّا نجاسة الخوارج و النواصب فنمنع كونها لمجرّد الإنكار للضروري فلعلّه لعنوانهما الخاص بل لا يستفاد من الاخبار الّا ذلك كما في اليهود و النصارى فيكون ولاية الأمير و الأئمة صلوات اللّه عليهم بمعنى محبّتهم كالرسالة في كفر منكرها من غير فرق بين القاصر و المقصّر و لو سلّم ما ذكر من الإطلاق فإنّما هو في العقائد الضروريّة المطلوبة من المكلّفين التديّن بالاعتقاد بها دون الأحكام العمليّة الضرورية التي لا يطلب فيها الّا العمل فالأقوى التفصيل بين القاصر و غيره في الأحكام العمليّة الضرورية دون العقائد تمسّكا في عدم كفر منكر الحكم العملي الضروريّ بعدم الدليل على سببيّته للكفر مع فرض عدم التكليف بالتديّن بذلك الحكم

و لا بالعمل بمقتضاه. الى آخر كلامه زيد في علوّ مقامه.

و قد علمت بأنّه قال بأنّ كفر الخوارج و النواصب ليس من باب إنكار الضروري بل لأجل عنوانهما الخاصّ و على هذا فلا يرد الاشكال على العلماء في عدم تقييد مورد التمثيل و هو الخوارج و الغلاة مثلا بعدم الشبهة لأنّ الوصف

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 171

العنواني موجب لترتّب الحكم بالكفر مطلقا.

و قد تحصّل من كلامه انّه فصّل بالأخرة في الضروريّات بين العقائد و الأحكام العمليّة فحكم في الأولى بأنّ إنكارها سبب للكفر مطلقا و في الثانية بالتفصيل بين كون الإنكار عن قصور أو عن تقصير و الثاني محكوم بالكفر دون الأوّل.

و نحن نقول: انّ ما ذهب اليه و اختاره في رفع الاشكال- من كون العنوان موجبا للكفر- وجه غير بعيد و به يرتفع الاشكال و مع ذلك فسيجي ء منّا وجه في انّ إطلاقهم القول بكفر منكر الضروري غير مناف للتقييد في كلمات بعضهم فانتظر.

ثمّ انّ في كلامه الشريف مواقع للنظر ينبغي لنا التعرّض لها.

فمنها انّه قدّس سرّه أصرّ شديدا على القول بكون الإسلام هو التديّن بمجموع الدين و استشهد على ذلك بما أشرنا إليه من الاخبار و هو و ان استشكل في أثناء كلامه و مطاوي تحقيقاته في هذا الإطلاق أعني كفر مطلق من جحد شيئا ضروريّا من الدين الّا انّه بالأخرة اعتمد عليه و لم يستثن منه سوى منكر الحكم العملي قاصرا فكلّ من سواه داخل تحت الإطلاق سواء كان منكرا للعقائد قاصرا و مقصّرا أو منكرا للحكم العمليّ تقصيرا.

و الحال انّ استظهار كون الدين هو مجموع الحدود الشرعيّة- من الاخبار- و انّ إنكار أيّ واحد منه موجب للكفر مشكل-

و سنبيّن ما يستظهر من الروايات إنشاء اللّه تعالى- و الالتزام به لو سلّم استفادته أشكل بل يمكن ادعاء كون ذلك مخالفا للإجماع فإنّ لازم التمسّك بهذا الإطلاق هو كفر منكر كلّ حكم لو كان عن تقصير و ان لم يكن ضروريا فانّ الروايات قد تتضمّن ما لا يكون ضروريّا ايضا و على هذا فمن استنبط غلطا لتقصيره في مقدّمات الاستنباط مثل ان عمل

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 172

بالقياس و تمسّك به أو لم يتتبّع كاملا في مقام الاجتهاد يكون كافرا و هذا ممّا لا يمكن الالتزام به اللّهم الّا ان يقيّد الأحكام العمليّة بكونها ضروريّة و استنبط غلطا عن تقصير.

لكن يبقى الإيراد عليه بأنّه ما الفرق بين الضروري و غيره فان كنتم تفرّقون بينهما لأنّ إنكار الضروريّ يوجب التكذيب و مستلزم له دون غير الضروريّ.

ففيه انّه لا تكذيب أصلا مع عدم العلم كما هو المفروض، فمن الممكن انّ هذا المنكر لو ارتفع جهله و علم بأنّ النبي قال به لقبلة و أقرّ به و خفض جناح الذلّ تجاه قول رسول اللّه و رسالته الخالدة.

و منها انّه قدّس سرّه علّل عدم كفر منكر الحكم العملي الضروري بعدم الدليل على سببيّته للكفر مع فرض عدم التكليف بالتديّن بذلك الحكم و لا بالعمل بمقتضاه لانّه المفروض. و على هذا فلو أنكر أحد، جهلا وجوب الصلاة أو غيرها فهو غير مكلّف بالتديّن به و إذا لم يكن مكلّفا فلا يعاقب بتركه لعدم التكليف به فكيف يمكن الحكم بكفره بذلك و الحال هذه؟ فقد تمسّك قدّس سرّه بأنّه لا يمكن عقلا ان يكون غير مكلّف و غير معاقب و مع ذلك يحكم عليه- لأجل هذا الحكم

الذي لا يوجب عقابا- بالكفر.

و فيه انّ هذا بمكان من الإمكان فلو دلّ دليل على الكفر مع عدم التكليف و العقاب فلا استبعاد عقلا بل هو واقع و محقّق كما اعترف هو بنفسه في صورة إنكار الضروري الاعتقادي جهلا كمن كان قد ولد في جزيرة بعيدة و نشأ فيها بعيش بسيط انفرادي و لم ير أحدا و لم يشعر بأنّ للعالم إلها و صانعا فهو غير معاقب لعدم التقصير مع انّه كافر لعدم إقراره بالشهادتين و مجمل الكلام انّه من الممكن في مفروض الكلام كونه غير مكلّف و مع ذلك يكون كافرا، و لا

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 173

وجه للاستبعاد فيه الّا انّه لم يقم عليه دليل و قد ذكرنا انّه لو دلّ عليه دليل فهو في نفسه غير بعيد.

ثم انّك قد علمت انّ الشيخ المرتضى جمع بين اخبار الشهادتين و الاخبار المطلقة الدّالة على كفر منكر حكم من الأحكام: بحمل الاولى على مورد حدوث الإسلام ممّن كان ينكره، و الأخذ بإطلاق الأخبار الأخر و الحكم بأنّ إنكار مطلق الأحكام موجب للكفر الّا الحكم العمليّ إذا كان إنكاره عن قصور عند ما كان معتنقا للدّين.

و للفقيه الهمداني قدّس سرّه طريق آخر للجمع بين تلك الأخبار أعني روايات كفر منكر شي ء من الأحكام و روايات الشهادتين قال: و يتوجّه على الاستدلال بمثل الروايات بعد الغضّ عما في بعضها من الخدشة انّ استحلال الحرام أو عكسه موجب للكفر من غير فرق بين كونه ضروريّا أو غيره بل بعضها كالصريح في الإطلاق و حيث لا يمكن الالتزام بإطلاقها يتعيّن حملها على ارادة ما إذا كان عالما بكون ما استحلّه حراما في الشريعة فيكون نفي الإثم

عن نفسه و استحلاله منافيا للتديّن بهذا الدين و مناقضا للتصديق بما جاء به سيّد المرسلين فيكون كافرا سواء كان الحكم في حدّ ذاته ضروريّا أم لم يكن (الى قال:) و الحاصل انّه لا يفهم من هذه الاخبار اعتبار عدم إنكار شي ء من الأحكام الضروريّة من حيث هو و ان لم يكن منافيا لتصديق النبي في جميع ما جاء به إجمالا في مفهوم الإسلام المقابل للكفر حتّى يتقيّد به الاخبار الواردة في تفسير الإسلام الخالية عن ذكر هذا الشرط مثل ما رواه في الكافي عن سماعة قال:

قلت لأبي عبد اللّه: أخبرني عن الإسلام و الايمان اهما مختلفان؟ فقال: انّ الايمان يشارك الإسلام و الإسلام لا يشارك الايمان فقلت فصفهما لي فقال:

الإسلام شهادة ان لا إله إلّا اللّه و التصديق برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله به حقنت

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 174

الدماء و جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس و الايمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام الى غير ذلك من الاخبار الدالة عليه انتهى.

و حاصل كلامه رضوان اللّه عليه انّ تلك الأخبار مطلقة في تحقّق الكفر بإنكار أيّ حكم من الأحكام ضروريّها و غير ضروريّها لكن لا يمكن الالتزام بهذا الإطلاق و لذا يحمل على ما إذا كان عالما بأنّه حرام في الشرع و مع ذلك أحلّه فإنّ هذا التصرّف و التديّن خلاف التديّن بالإسلام فيحكم بكفره.

و فيه انّ الروايات بعد عدم إمكان الأخذ بظاهرها كما اعترف به تصير مجملة لدوران الأمر بين تقييد الظاهر بالعلم أو بالضروري و إذا صارت مجملة فلا يمكن التمسّك بها لاشتراط الدليل بكونه صريحا و لا أقلّ من

كونه ظاهرا.

و هنا وجه ثالث للجمع بين الاخبار يغاير ما قاله شيخنا المرتضى و كذا الهمداني و قد قاله بعض و هو انّه ليس الكافر في هذه الروايات بمعناه المصطلح، بل هو بمعنى العاصي، و على هذا فالمنكر لشي ء من الأحكام مطلقا عاص للّه سبحانه.

و فيه انّه خلاف الظاهر جدّا.

هذا مضافا الى عدم مساعدة ذلك لما ورد في روايات أخرى كصحيحة عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم انّها حلال أخرجه ذلك عن الإسلام و عذّب أشدّ العذاب و ان كان معترفا انّه أذنب و مات عليه أخرجه من الايمان و لم يخرجه من الإسلام و كان عذابه أهون من عذاب الأوّل. «1»

ألا ترى انّه قد تعرّض لصورة الفسق على حدة في قبال المرتكب المستحلّ المحكوم عليه بالكفر.

______________________________

(1). الكافي ج 2 ص 285 الحديث 23.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 175

و لنا في هذا المقام بيان في وجه الجميع بينها لا يرد عليه هذه الإيرادات و هو انّ الظاهر من تلك الروايات و تعبيراتها الخاصّة و كيفيّة الخطاب و العتاب الواردين فيها انّها واردة في المستحلّ للحرام أو المحرّم للحلال عالما عامدا فمن كان عالما بحرمة الخمر و مع ذلك قال بحلّيّته فهو كافر قطعا و هو في الحقيقة مبدع في الدين نظير ما ورد في الروايات في من يأكل الربا و يسمّيه اللبأ [1] فهذه الاخبار غير مربوطة بالجاهل أصلا ألا ترى انّه قد يعبّر في بعضها بالجحد؟ و من المعلوم انّ الجحود هو الإنكار مع العلم. و بعبارة أخرى: لا يطلق الكافر على من استحلّه جهلا فهذا التعبير اى الجحود يشهد بورود الروايات في شأن

العالم بالخلاف و على هذا فليس مستحلّ الخمر عن جهل كافرا بل انّه يعاقب على ترك التعلّم. و يقال له- كما في الروايات- هلّا تعلّمت. [2]

و على الجملة فالذي استظهر منها هو انّها واردة في الإنكار عن علم و متعرّضة له و لمن أنكر عالما و لا أقلّ من كونه المتيقّن منها و على هذا فليس المنكر عن جهل أو عن شبهة كافرا نعم هذا كلّه في الأحكام و الفرائض و امّا الأصول الاعتقادية فانكارها موجب للكفر مطلقا.

و امّا إطلاق كلام بعضهم في كفر منكر الضروريّ فهو غير ضائر لأنّه ناظر الى نوع المنكرين و غالبهم، و وارد بحسب حال الأكثر، من علمهم بالحكم الضروريّ فإنّ الحكم إذا كان ضروريّا فقلّما يتّفق ان لا يكون معلوما للناس فيؤل

______________________________

[1]. و لفظ الخبر هذا: عن ابن بكير قال: بلغ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل انّه كان يأكل الربا و يسمّيه اللبأ، فقال: لئن أمكنني اللّه منه لأضربن عنقه وسائل الشيعة ج 12 ص 429 الباب 2 من أبواب الربا، ح 1 ثمّ لا يخفى أنّ اللبأ هو اللبن الأوّل الذي يناط به حياة الولد على ما قيل.

[2]. عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمّد عليهما السلام و قد سئل عن قوله تعالى. فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبٰالِغَةُ فقال: انّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أ كنت عالما؟ فان قال: نعم. قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و ان قال: كنت جاهلا قال له: أ فلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة. أمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 8.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 176

قولهم بكفر منكر الضروري الى كفر

من أنكره عالما بأنّه حكم شرعي الهىّ.

و مجمل القول انّ هذا الإطلاق لا ينافي التقييد أصلا و ان كان صرف النظر عن إطلاق كلمات العلماء في مثل منكر الصلاة و الصيام و الحج و الجهاد مشكل جدّا، و على هذا فلا يعتبر في الحكم بكفر منكر مثل هذه الأحكام رجوع إنكاره الى تكذيب النبي أو كون المنكر عالما فانّ ظاهر كلامهم كفره على اىّ حال.

و لكن يمكن ان يقال انّ إطلاقهم محمول على انّ هذه الأمور ضرورية واضحة للكلّ بمعنى انّ ادعاء الجهل فيها غير مسموع ناشئا عن جهل أو شبهة فيمكن ان لا يكون مستندا إلى إنكار الضروريّ بل كان الوصف العنواني عنوانا خاصّا للكفر نظير عنوان اليهوديّة و النصرانيّة على ما افاده علم التقى الشيخ المرتضى قدّس سرّه الشريف.

لكن هذا منوط بعدم كون الولاية بمعناها الخاص أعني الوصاية الخاصّة و الخلافة بلا فصل و زعامة الأمّة الإسلاميّة بعد النبي الأقدس (ص) [1] بل بمعنى وجوب المحبّة و ودّ العترة الطاهرة الزاكية فإنّه أمر قطعي كالرسالة و من ضروريّات الدين الإسلامي الّتي لا تقبل الجدل و الشك و يعترف بها الفريقان حيث انّ أهل السنّة ايضا على كثرتهم و تفرّقهم و اختلاف نحلهم و آرائهم- إلّا الخوارج و النواصب- معترفون بعظمة مقام علىّ عليه السلام و علوّ شأنه و رفعة منارة و كونه من العشرة المبشّرة [2] بل هو عند بعضهم أفضل أصحاب الرسول و

______________________________

[1]. أقول: إذا بنينا على عدم استناد كفرهما إلى إنكار الضروري فلا معنى لقولنا: لكن هذا منوط إلخ لأنّه يساعد الاستناد إلى إنكار الضروري فتأمل.

[2]. اخرج أبو داود من طريق عبد الرحمن الاخينس انّه كان في المسجد فذكر رجل

عليّا عليه السلام فقام سعيد بن زيد فقال: اشهد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّى سمعته و هو يقول:

عشرة في الجنّة: النبيّ في الجنّة، و أبو بكر في الجنّة، و عمر في الجنّة، و عثمان في الجنّة، و علىّ في الجنّة، و طلحة في الجنّة، و الزبير بين العوام في الجنّة، و سعد بن مالك في الجنّة، و عبد الرحمن بن عوف في الجنّة، و لو شئت لسمّيت العاشر قال: فقالوا: من هو؟ فسكت قال: فقالوا: من هو؟

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 177

أعلمهم.

ان قلت هنا اشكال و هو انّه لو كان إنكار الضروريّ موجبا للكفر بملاك تكذيب النبي فكيف لا يحكم بكفر من ردّ المتعتين معربا عن ذلك بقوله: متعتان محلّلتان كانتا في زمن رسول اللّه و انا احرّمهما و أعاقب عليهما [1] كما انّه قال عند نزول آية حجّ التمتّع معترضا على ذلك: نحجّ و رؤسنا تقطر [2] فاستهجن و استبعد توجّه الناس الى الحج و إحرامهم به و الحال انّ رؤسهم تقطر ماء الغسل عن مجامعة النساء بعد الفراغ عن العمرة كما انّه يرد هذا الإشكال في مورد عثمان أيضا فإنّه أمر مناديه في الحج ينادى: اجعلوها حجّة و خالفه أمير المؤمنين و رفع صوته لبيك بحجّة و عمرة معا لبّيك و قد صرّح عثمان في هذه القضيّة في جواب اعتراض علىّ عليه السلام و إيراده في ذلك بأنّ: هذا رأي رأيته. [3]

______________________________

فقال: هو سعيد بن زيد و بهذا الاسناد أخرجه الترمذي في جامعه- 13: 183، 186، و ابن الديبع في تيسير الوصول 3: 260، ذكره بالطريقين المحبّ الطبري في الرياض النضرة 1: 20 راجع الغدير

ج 10 ص 118.

[1]. ضبط العبارة على نقل صحيح مسلم ج 1 ص 395 و سنن البيهقي ج 7 ص 206- على ما حكاه الغدير ج 6 ص 210- هكذا: كانتا متعتان على عهد رسول اللّه و انا أنهى عنهما و أعاتب عليهما متعة النساء. و الأخرى متعة الحج. و في شرح ابن ابى الحديد ج 1 ص 182 متعتان كانتا على عهد رسول اللّه و انا محرّمهما و معاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج.

[2]. أقول: في الوسائل ج 8 ح 25 من أبواب أقسام الحج: محمد بن على بن الحسين قال: نزلت المتعة على النبي عند المروة بعد فراغه من السعى فقال: ايها الناس هذا جبرئيل- و أشار بيده الى خلفه- يأمرني أن آمر من لم يسق هديا ان يحلّ و لو استقبلت من امرى ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم و لكنّي سقت الهدى و ليس لسائق الهدى ان يحلّ حتّى يبلغ الهدى محلّه فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم (خثعم) الكناني فقال: يا رسول اللّه علّمنا ديننا فكأنّما خلقنا اليوم أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أو للأبد؟ فقال رسول اللّه (ص): لا بل لا بد الأبد و انّ رجلا قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجّاجا و رؤسنا تقطر؟ فقال: انّك لن تؤمن بهذا ابدا.

[3]. في الوسائل ب 21 من أبواب الإحرام ح 7 عن الحلبي عن ابى عبد إله قال: انّ عثمان خرج حاجّا فلمّا صار الى الأبواء أمر مناديا ينادى بالناس: اجعلوها حجّة و لا تمتّعوا فنادى المنادي فمرّ المنادي بالمقداد بن الأسود فقال. فلما انتهى المنادي الى على عليه السلام و كان عند

نتائج الأفكار في

نجاسة الكفار، ص: 178

فهل لم تكن هذه من الضروريّات أو كانت ضرورية الّا انّ الامام عليه السلام كان في تقيّة من الحكم بالكفر أو انّ الحكم مع كونه ضروريا الّا انّه غير موجب للكفر لكونه حكما عمليّا و الموجب للكفر هو إنكار الضروري من الأصول أو غير ذلك، وجوه و احتمالات؟

و الحق انّ المتعتين تعتبران من ضروريات المذهب- اى مذهب الشيعة- لا من ضروريات الدين و هذا غير مستلزم للتكذيب و إنكار الرسالة كما في كلّ ضروري كان قابلا لان يأوّله أحد أو يرى فيه مجالا لإعمال الرأي و النظر بل و إنكاره من رأس أو الاعتذار بكونه حكما موقّتا زال وقته و انقضى اجله فان ما كان كذلك و ان كان ضروريّا الّا انّه ضروريّ في حوزة محدودة لا في حوزة الإسلام و إنكار ضروري الإسلام هو الذي يوجب الكفر و الخروج عن الدين و يشهد على هذا تصريح عثمان بأنّ هذا رأي رأيته الظاهر في انّه كان يرى في ذلك مجالا للرأي و الاجتهاد و يحتمل انّه كان تصرّفه من باب حكومة الحاكم بزعمه حيث كان عثمان في ذاك الوقت متصدّيا للخلافة الإسلاميّة و عاهلا لحوزة المسلمين.

و صفوة القول هنا انّه قد يكون الضروري بحيث يتّفق عليه كلمة المسلمين على اختلاف شعبهم و كثرة اغصانهم فهذا هو الذي يقتضي إنكاره التكذيب و يترتّب عليه الحكم بالكفر و النجاسة كوجوب الصلاة و صوم شهر رمضان و قد لا يكون كذلك بل هو في حدّ يمكن ان يذعن به تابعوا مذهب و ينكره الآخرون كما في قضيّة المتعتين، و إنكار هذا القبيل من الضروريّ الذي

______________________________

ركائبه يلقمها خبطا و دقيقا فلمّا سمع النداء تركها

و مضى الى عثمان و قال: ما هذا الذي أمرت به؟ فقال: رأي رأيته فقال: و اللّه لقد أمرت بخلاف رسول إله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أدبر مولّيا رافعا صوته: لبيك بحجّة و عمرة معا لبيك.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 179

يكون ضروريّا في اطار خاصّ و حوزة محدودة غير موجب للتكذيب فلا يترتب على إنكاره الحكم بالكفر. [1]

كلمة في معيار الضروريّ

بقي الكلام هنا في ملاك الضروريّ- و لا بد من معرفته و تميّزه عن غيره كي لا يتبادر بتكفير مسلم أو الحكم بإسلام من خرج عن الإسلام- فنقول: انّه ليس له اصطلاح خاصّ وراء اصطلاحه الجاري في المنطق فأهل المنطق قسّموا القضايا الى قسمين: نظرية، و ضرورية.

و الأولى: هي ما يحتاج إثباته إلى دليل و برهان و لا يمكن التصديق به بدون ذلك نظير قولنا: العالم حادث. فإنّه مترتّب على تشكيل قياس و ترتيب صغرى و كبرى حتّى يحصل الجزم به و الحكم بحدوث العالم.

و امّا الثانية: أعني الضرورية من القضايا فهي ما لا حاجة في إثباته إلى ترتيب قياس و اقامة دليل و برهان، مثل قولنا: النّار حارّة و على هذا فكلّ حكم اعتقاديّ أو عمليّ في الإسلام الذي لا حاجة لنا في إثبات كونه من الإسلام و انّه من برامجه الى دليل فهو ضروريّ نظير الصلاة بل و مثل الختان فإنّه في الشريعة الإسلامية من الأمور الّتي صارت ضرورية الثبوت يعلم كلّ من دخل في حوزة الإسلام بل و غير المسلمين ايضا انه من دين النبي صلّى اللّه عليه و آله و من

______________________________

[1]. يؤيّد ما افاده دام ظلّه العالي كلام المحقق القمي في القوانين و إليك نصّه: اعلم

انّ ضروريّ الدين كما يستلزم إنكاره الخروج عن الدين فضرورىّ المذهب ايضا يستلزم إنكاره الخروج عن المذهب، و هنا دقيقة لا بدّ ان ينبّه عليها و هو انّ ضروريّ الدين قد يختلف باعتبار المذهب فيشتبه ضروريّ الدين بضروريّ المذهب كما لو صار عند الشيعة وجوب مسح الرحلين ضروريّا عن النبي فإنكاره من الشيعة إنكار لضروريّ الدين بخلاف مخالفيهم فتأمل انتهى كلامه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 180

خصائص المسلمين يتردّدون في إسلام من لم يكن مختونا أو يحكمون بكفره فالمسلم و غير المسلم يعلم شدّة اهتمام الشارع على هذه السّنّة و لهذا قد يتّفق أنّ المسيحي يريدان يعتنق الإسلام فيحاسب نفسه أوّلا انّه يمكنه التسليم حذاء اجراء هذه السنّة القطعية عليه فحينئذ يتشرّف بقبول الإسلام و اعتناقه أم لا يمكنه ذلك و لا يرى من نفسه التّهيّؤ للختان و يثقل عليه ذلك فهناك يرجع و ينصرف عمّا اراده من قبول الإسلام.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 181

الكلام في الارتداد و أحكام المرتدّ

اشارة

ثمّ انّ المسلم المقرّ بكلمة الإسلام أي الشهادتين لو أقرّ على نفسه بالخروج عن الإسلام أو تفوّه بكلمة كاشفة عن عدم اعتقاده بما وجب الاعتقاد به ضرورة، أو اتى بما ينافي اعتناقه بالإسلام، مثل انّه أحدث في المسجد الحرام أو القى المصحف الشريف في المقذر فإنّه يرتدّ بذلك و من هذا الباب الاستهزاء بالإسلام أو بشي ء من مسلّماته أو الاستهانة بمقدّساته كسبّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و على الجملة فالارتداد هو قطع الإسلام و تركه و الخروج من الملّة و اختيار الكفر بقول ينافي الإسلام أو فعل يناقضه بشرط ان يكون ذلك عن قصد و اختيار.

و قد ظهر ممّا ذكرنا انّ المرتدّ هو

من خرج عن الإسلام و اختار الكفر بعد ما كان مسلما. و هو على قسمين: الفطريّ، و الملّيّ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 182

و الأوّل: هو من كان احد أبويه مسلما حال انعقاد نطفته ثمّ أظهر الإسلام بعد بلوغه ثمّ ارتدّ و خرج عن الإسلام.

و الثاني: هو من كان أبواه كافرين حين انعقاد نطفته ثمّ أظهر الكفر بعد بلوغه فصار كافرا ثمّ أسلم ثمّ عاد الى الكفر.

ثمّ انّ المرتدّ لو كان فطريّا يجب قتله و يقسم أمواله التي كانت له حين ارتداده بين ورثته المسلمين و امّا الأموال الّتي يكتسبها بعد ذلك أي في حين كفره ففي دخولها في ملكه خلاف و كذلك تبين منه زوجته في الحال و ينفسخ نكاحها بلا حاجة الى طلاق و عليها ان تعتدّ عدة الوفاة، و لو تاب فالتوبة و ان كانت مقبولة عنه، الّا انّها لا تنفع لرفع حكم القتل، و لا في رجوع ماله اليه، و لا في رجوع زوجته اليه. و هل يجوز له نكاحها بعقد جديد أم لا؟ اختلف الاعلام في ذلك فبين قائل بالجواز و بين قائل بالمنع، و الظاهر انّه يجوز ذلك، هذا في الرجل.

و امّا المرأة فلو ارتدّت بقيت أموالها على ملكها و لا تنتقل عنها الى ورثتها الّا بالموت و ينفسخ نكاحها بانقضاء العدّة سواء كانت فطريّة أو مليّة كما انّها لا تقتل مطلقا بل تحبس و تضرب أوقات الصلاة و يدام عليها السجن حتى تتوب أو تموت.

و امّا المرتدّ عن ملّة فلا تنتقل أمواله إلى ورثته الّا بالموت كما انّه لا يقتل إلّا إذا تكرّرت منه الردّة، و امّا زوجته فانّ فسخ نكاحها موقوف على انقضاء العدة بلا توبة

الّا ان يكون الارتداد قبل الدخول فإنّه يقع الانفساخ في الحال، هذا.

و قد علمت ممّا ذكرنا انّ للمرتد أحكاما خاصة في نفسه و ماله و زوجته كما انّ لمطلق الكافر أيضا أحكاما مثل نجاسة بدنه و كونه مهدور الدم الّا ان

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 183

يكون كتابيا في ذمّة الإسلام مواظبا على آدابها و شرائطها- فإنّ ماله محترم و دمه محقون- و كذا غير الكتابي الذي إجارة المسلم.

كلمة في ولد المرتدّ

ثمّ انّا قد ذكرنا سابقا انّ ولد الكافر ملحق به الّا في موارد تعرّضنا لها فحينئذ تصل النوبة إلى البحث في انّ ولد المرتدّ هل يلحق بالمرتدّ في أحكامه أيضا أم لا؟

أقول: من الواضح انّ ولد المرتدّ من حيث هو ليس بمرتدّ لانّ المرتدّ هو من كان مسبوقا بالإسلام ثم ارتدّ و خرج عنه بالردّة قولا أو فعلا و هذا التعريف لا يصدق عليه الّا انّه لو انعقدت نطفته في حال ارتداد الأبوين فإنّه لا محالة يكون الولد- على ما ذكرنا من أدلّة التبعية- نجسا و يترتّب عليه أحكام الكفر، امّا لو كان علوق الولد و انعقاد نطفته قبل ارتداد هما أي في حال إسلامها، ثم بعد ذلك حصل لهما الارتداد، فلا يلحق بالكفّار إجماعا لاقتضاء شرف الإسلام و علوّه و سموّه لحوقه بالمسلمين فهو وارث مسلم لهما سواء كان تولّده في حال الارتداد أو عرض الارتداد بعد ذلك ايضا و هذا كلّه في ارتداد كليهما و امّا لو ارتدّ أحدهما فالولد ملحق بالمسلم منهما و ان كان العلوق حال الارتداد- لشرف الإسلام فإنّه يقتضي إلحاقه به كما ذكرنا ذلك سابقا. [1]

______________________________

[1]. أقول انّ سيّدنا الأستاد الأكبر دام ظله قد تعرّض لاحكام المرتدّ في

هذا المقام عابرا لكنه دام بقاه قد تعرّض لاستدلاتها تفصيلا عند البحث عن المرتد في الحدود و قد قرّرناها تفصيلا في كتابنا: الدّرّ المنضود في أحكام الحدود و قد طبع المجلّد الأوّل منه بحمد اللّه و منّه.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 184

تنبيهات:

ثم انّ ههنا أمورا ينبغي التعرض لها:

أحدها انّ الفقيه الهمداني رضوان اللّه عليه ادّعى انصراف الإجماعات القائمة على نجاسة الكافر الى غير المرتدّ منهم، فإنّه عند البحث عن كفر النواصب قال: فمتى حكمنا بكفرهم هل يثبت بذلك نجاستهم أم لا؟ فيه تردّد نظرا الى انّ عمدة مستنده الإجماع، و ربّما يتأمل في تحقّقه على نجاسة كلّ كافر نظرا الى انصراف معاقد الإجماعات المحكيّة و كلمات المجمعين الى غير المرتدّ انتهى كلامه رفع مقامه.

و هذا عندنا غير وجيه فانّ الانصراف الذي ادّعاه انصراف بدويّ يزول بأدنى تأمّل و أقلّ توجّه و التفات. و هذا نظير انصراف طهارة الملح الى الملح المتداول المتعارف الذي كان من بدو الأمر و من حين نشئه ملحا، و انصرافها عمّا إذا كان كلبا فصار ملحا في المملحة فإنّ هذا الانصراف ابتدائي و يزول بالتوجّه و الالتفات إلى إمكان تبدّل الكلب في المملحة ملحا و هناك يقطع بعدم الفرق بين القسمين من الملح، و الحاصل انّه لا فرق في الحكم بنجاسة الكافر بين ما إذا كان كافرا أصليّا غير مسبوق بالإسلام و بين ما إذا كان كفره مسبوقا به اعنى المرتدّ.

ثانيها: في ميزان ثبوت الرّدة فنقول انّها تثبت بالشاهدين أو الإقرار و لا تثبت بغير ذلك و تفصيل هذه المطالب موكول الى كتاب الشهادات و الحدود.

ثالثها: انّه لو علم أحد، ارتداد شخص بان سمع منه كلمة الردّة مثلا

يجوز له قتله ان لم يخف على نفسه، و يعامله معاملة النجس و مع ذلك فلو قتله فعليه إثبات ارتداده بطريق شرعي و انّ قتله له كان بذلك السبب لا لجهة أخرى و لو قتله و لم يتمكّن من إثبات ذلك يقتل لانّه قتل من لم يثبت كونه مهدور الدم.

لا يقال: انّ النبي مع علمه بارتداد بعض الناس لم يقتلهم.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 185

لأنّا نقول انّ الملاك هو العلم بالطريق العادي لا المستفاد من طرق غير جليّة كالوحي مثلا.

كلمة حول المنافقين

ثم انّك قد علمت ممّا ذكرنا مرارا انّ المعيار في الحكم بإسلام أحد هو الإقرار بالشهادتين و انّهما تمام حقيقة الإسلام مشروطا بعدم إبراز ما يخالف الإسلام و الّا فهو محكوم بالكفر و الارتداد و أمضينا ايضا انّ المنافقين كانوا محكومين عليهم بحكم الإسلام و كان النبي يعاملهم معاملة المسلمين لأنّهم أظهروا الشهادتين و أقرّوا بكلمة الإسلام و ان كانوا مضمرين للكفر.

و قد أورد علينا بعض شركاء مجلس الدرس بأنّهم و ان أقرّوا بالشهادتين لكنّهم ابرزوا مخالفتهم للإسلام و انّهم بصدد استهزاء المؤمنين كما نصّ على ذلك القرآن الكريم حيث يقول وَ إِذٰا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ قٰالُوا إِنّٰا مَعَكُمْ إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. «1» فانّ قولهم لزملاءهم و شياطينهم: (انّا معكم) و كذا قولهم: (انّما نحن مستهزءون) مخالف لإقرارهم بالشهادة، و رجوع عن الإسلام، و كان اللازم على ما ذكر من المبنى و المعيار في الارتداد ان يحكم النبي بارتداد هم و كفرهم، مع انّه لم يحكم بذلك بل كان يعاشرهم و يجالسهم.

و فيه انّ الحكم بالارتداد أو القتل و أمثال ذلك- نظير باب القضاء- تابع لموازين

خاصّة و قواعد و معايير مضبوطة لا يتجاوزها بل يدور مدارها نفيا و إثباتا فترى انّ النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله سلّم يقول: (إنّما أقضي بينكم

______________________________

(1). سورة البقرة الآية 14.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 186

بالبيّنات و الايمان) «1» و كان يقضى بين الناس على حسب هذه الموازين العادلة اى بمقتضى بيّنة المدّعى، و الّا فيمين المدّعى عليه، مع انّه كان عالما بحقيقة الأمر و متن الواقع، لكنّه كان لا يعمل بعلمه المأخوذ من الغيب و لم يكن مأمورا أن يعامل المترافعين معاملة الواقعيّات و الحكم بين الناس بحكم داود على نبيّنا و آله و عليه السلام و الأمر فيما نحن فيه ايضا كذلك فانّ الملاك في الحكم بالارتداد و الكفر هو إظهار الرّدة و إتيان كلمة الكفر عيانا أو بمثبت شرعيّ و امّا إتيانها خفاء و العلم بذلك بطريق الوحي فلم يعتبر ذلك سببا للحكم بالكفر و الارتداد.

و ما نحن فيه كان من هذا القبيل فانّ المنافقين قد أقرّوا بتوحيد اللّه و رسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و هم و ان خالفوا ذلك لكن مخالفتهم كانت في الخفاء و عند شياطينهم و في أندية زملائهم مع احتفاظهم جدّا على ظاهر الأمر فكانوا على ظاهرهم مسلمين و مقرّين في مجامع أهل الإيمان بالشهادتين و انّما علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بما أتوا في الخفاء بعلمه الخاصّ الذي أشرق و أفيض عليه من أفق الغيب، و ليس هو الملاك و المعيار في الحكم بالكفر، فلذا كان يعاملهم على حسب ظاهرهم الذي هو الإسلام.

و هذا الحكم بعد ايضا كذلك فلو أقرّ شخص بالإسلام، ثمّ انّه قال بكلمة الرّدّة في

الخفاء، و لم يبرز منه الّا الإسلام و الاعتناق به، و لم يتفوّه بشي ء يخالفه، فهو مسلم عندنا.

و يؤيّد ما ذكرنا انّه في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ربما كان واحد منهم يقول بشي ء يخالف الإسلام و بعد ما يؤاخذه النبي على ذلك ينكره

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 18 ص 169 ب 2 من أبواب كيفيّة الحكم ح 1 و باقي الحديث ايضا شاهد للبحث فراجع.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 187

أشدّ الإنكار و كان النبي يقبل منه هذا الاعتذار و الإنكار، و لأجل هذا و أشباهه سمّوه إذنا قال اللّه تعالى يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ. [1]

______________________________

[1]. سورة التوبة الآية 61: أقول ولي في الاستشهاد بالآية الكريمة على ما افاده سيّدنا الأستاد الأكبر دام ظلّه العالي نظر و تأمّل حيث انّه تعالى يقول: بعد ذلك يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 189

الكلام حول كفر الخوارج و النواصب

قد علمت انّهم حكموا بكفر من أنكر الضروريّ مع الانتماء إلى الإسلام أيضا و انّهم مثّلوا بالخوارج و أشباههم فراجع عبارة المحقّق في الشرائع المذكورة من قبل. و قد علمت ايضا انّا ذكرنا تبعا لعلم التحقيق الشيخ المرتضى قدّس سرّه بان كفر هؤلاء ليس من باب إنكار الضروريّ بل هم كافرون بعنوانهم الخاصّ فالمناسب هنا ان نتعرّض للخوارج و النواصب حكما و موضوعا. فنقول: دلّت الرّوايات الكثيرة على كفر الخوارج و النواصب، و انّهم كافرون بعنوانهم الخاص، و قد جمعها الفقيه الهمداني قدّس سرّه.

منها ما أرسل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله انّه قال في وصف الخوارج:

انّهم يمرقون من الدّين كما يمرق السهم من

الرميّة. «1»

______________________________

(1). بحار الأنوار ج 33 ص 325.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 190

و ظاهرها كفرهم مطلقا سواء كان عن علم أو عن جهل مركّب.

و منها رواية الفضل قال: دخل على ابى جعفر عليه السلام رجل، محصور عظيم البطن فجلس معه على سريره فحيّاه و رحّب به فلمّا قام قال: هذا من الخوارج كما هو قال: قلت مشرك؟ فقال: مشرك و اللّه مشرك.

و المراد من المشرك هو الكافر و قد مرّ ذلك الخبر في أوائل الكتاب.

و في الزيارة الجامعة: و من حاربكم مشرك.

و منها ما عن الكافي: عن بعض أصحابنا عن ابن ابى جمهور عن محمّد بن قاسم عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال: لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها غسالة الحمّام فانّ فيها غسالة ولد الزنا و هو لا يطهر إلى سبعة آباء و فيها غسالة الناصب و هو شرّهما انّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا من الكلب و انّ الناصب أهون على اللّه من الكلب. «1»

و ذيل هذا الخبر دالّ على المطلوب، و امّا عدم العمل بصدره الدّالّ على نجاسة ولد الزنا فهو غير ضائر بذلك.

و منها رواية القلانسي قال: قلت لأبي عبد اللّه ألقى الذميّ فيصافحني قال:

امسحها بالتّراب أو بالحائط قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها. «2»

و منها مرسلة الوشّاء عن ابى عبد اللّه عليه السلام انّه كره سؤر ولد الزنا و اليهوديّ و النصرانيّ و المشرك و كلّ من خالف الإسلام و كان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. «3»

و منها مرسلة علىّ بن الحكم عن رجل عن ابى الحسن عليه السلام في

______________________________

(1). الكافي ج 3 ص 14 باب ماء الحمّام. ح 1.

(2). جامع أحاديث الشيعة

ج 2 ص 113 ب 13 من النجاسات ح 3.

(3). جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 53 ب 1 من أبواب الأسئار ح 4.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 191

حديث انّه قال: لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام فإنّه يغتسل فيه من الزنا و يغتسل فيه ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم. «1»

و منها موثّقة عبد اللّه بن ابى يعفور عن ابى عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: و إيّاك ان تغتسل من غسالة الحمّام ففيها تجتمع غسالة اليهوديّ و النصرانيّ و المجوسيّ و الناصب لنا أهل البيت و هو شرّهم فانّ اللّه تبارك و تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب و انّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. «2»

نعم أورد بعض على الاستدلال بهذه الروايات مناقشات بعضها راجع الى السند، و بعضها إلى الدلالة.

امّا الأوّل: فهو انّ تلك الأخبار مرسلة، أو ضعيفة السند، فكيف يعتمد عليها و يستدلّ بها؟

و فيه انّها و ان كانت كذلك لكنّها منجبرة بعمل الأصحاب فإنّ عملهم على طبقها و ان لم يكونوا يستندون إليها، هذا مضافا الى انّ بعضها كرواية ابن ابى يعفور موثّقة.

و امّا الثاني: أي ما هو راجع الى دلالتها فأمور:

منها ذكر ولد الزنا في بعض هذه الروايات مع الناصب و قرينا له، و هذا يشهد بأنّ الناصب ليس نجسا اصطلاحيّا، لانّ ولد الزنا لم يحكم بنجاسته قطعا، بل المراد من نجاسته الخباثة الذاتية.

و فيه انّه لا يرفع اليد عن ظاهر ما دلّ على النجاسة بمجرّد خروج مورد عنه المعلوم خروجه بالقرائن الخارجية.

و منها انّه كيف يمكن الحكم بكفرهم مع انّه ثبت و تحقّق معاشرة

______________________________

(1). جامع أحاديث الشيعة ج

2 ص 51.

(2). جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 49 ح 12.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 192

أصحاب الأئمة و مخالطتهم لهم طيلة أعوام كثيرة بل و معاشرة الأئمة عليهم السلام بأنفسهم معهم و عدم تحرّزهم عنهم كما هو ظاهر جدّا لمن سبر الاخبار و راجع التواريخ و الآثار.

لا يقال: انّ هذه الأمور صحيحة غير قابلة للإنكار الّا انّها كانت لأجل التقيّة.

لأنّا نقول: الحمل على التقيّة على مرّ العصور الكثيرة و الأزمان الطويلة بعيد جدّا لا سيّما بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه كان يجالس سواد الناس و عامتهم و يعاشرهم، مع انّه كان فيهم من كان يبغض عليّا عليه السلام كبعض زوجاته و نسائه، أ لم يكن من الواضحات المسلّمات أنّ عائشة كانت مبغضة له عليه السلام شديدا؟ بل و كانت تظهر بغضها له و تعلن ذلك خصوصا بعد قضيّة الافك و مع ذلك فقد نقل اغتسال النبي معها في إناء واحد و على الجملة فبقي الإشكال- أي إشكال معاشرة الأئمة و أصحابهم مع النواصب مثلا- بحاله.

و أجاب عنه علم التقى شيخنا المرتضى قدّس سرّه الشريف بأنّ الحكم بنجاسة الناصب يمكن ان يكون مثل كثير من الأحكام قد انتشر في زمن الصادقين عليهما السلام بعد ما لم يكن ظاهرا الى زمانهما، و كان مخزونا في خزانة علوم الأئمة الطاهرين المعصومين و حيث انّ المسلمين لم يكونوا عالمين بكفرهم فكانوا يعاملون معاملة الطهارة، هذا بالنسبة إلى الأصحاب و امّا بالنسبة إلى النبيّ و الأئمة فمخالطتهم و معاشرتهم مع هؤلاء النواصب بحيث يكشف عن طهارتهم فغير ثابتة و لم يعلم ذلك أصلا.

و لنا عن الاشكال المزبور جواب آخر و لعلّه

أظهر ممّا افاده قدّس سرّه.

تحقيقه انّ عداوة المبغضين لأمير المؤمنين عليه السلام على قسمين

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 193

إحداهما: العداوة الشخصيّة بالنسبة إليه مثل ان يبغضه حسدا له لكونه حليف النصر يفتح اللّه على يديه في الحروب و المغازي دون غيره أو لكونه صهرا لرسول اللّه و زوجا لابنته الصدّيقة دون غيره أو لأنّه قاتل ولده أو أبيه أو أخيه و عشيرته أو غير ذلك من الأسباب المورثة للعداوة.

ثانيتهما: العداوة الدينيّة كان يبغضه تبريا منه جاعلا ذلك امرا دينيّا يتعبّد و يتديّن به و يتقرّب الى اللّه تعالى بذلك و أمر الثاني في غاية الصعوبة و الاشكال و هو الكفر حقيقة.

و يشهد على ما ذكرنا انّه كان الامام علىّ عليه السلام قد يلقى الى خواصّ أصحابه الأسرار و المغيبات و يخبرهم بأنّه سيعرض عليهم بعض الطواغيت البراءة منه عليه السلام و سبّه و كان يأمرهم بان يسبّوه اتّقاء منهم كيلا يصيبهم منهم الفتنة و لكنه كان ينهاهم عن البراءة عنه [1] و هم رضوان اللّه عليهم عاهدوه على عدم التبرّيّ منه و قد انجزوا هذا الوعد و صدقوا ما عاهدوه عليه و قتلوا و صلبوا ثابتين على ولايته.

و على الجملة فالنوع الأخير من هذين هو الموجب للكفر و النجاسة و امّا الأوّل فلا و لم يثبت انّ بغض من عاشرهم المسلمون و خالطهم النبيّ و الأئمة عليهم السلام من المخالفين و المبغضين كان من القسم الأخير حتّى عداوة مثل

______________________________

[1]. أقول: فمن كلام له عليه السلام: امّا انّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد و يطلب ما لا يجد فاقتلوه و لن تقتلوه الا و انّه سيأمركم

بسبي و البراءة منيّ فأمّا السب فسبّوني فإنّه لي زكاة و لكم نجاة و امّا البراءة فلا تبرّأوا «فلا تتبرّوا» منّي فإنّي ولدت على الفطرة و سبقت الى الايمان و الهجرة نهج البلاغة، و وسائل ج 11 ب 6.

و عن ميثم النهرواني قال: دعاني أمير المؤمنين علىّ بن ابى طالب عليه السلام و قال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بنى أميّة عبيد اللّه بن زياد الى البراءة منّى؟ فقلت يا أمير المؤمنين انا و اللّه لا ابرء منك قال: إذا و اللّه يقتلك و يصلبك قلت: اصبر فذاك في اللّه قليل فقال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي الوسائل ج 11.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 194

عائشة أيضا لم يتحقّق كونها من باب التديّن بها [1] بل عداوة المبغضين لهم غالبا كانت ناشئة من أغراض شخصيّة و جهات ماديّة دنيويّة كحبّ الملك و الجاه.

و الخوارج بمعناها المصطلح لم يكونوا في زمن النبي بل وجدوا و تشكلوا بعد واقعة التحكيم بصفيّن قائلين لا حكم الّا للّه، و اعتقدوا أنّ إقدام الامام على تحكيم الحكمين و قبول ذلك موجب لخروجه عن الدين و شركه باللّه تعالى و بعد واقعة نهروان لم يكونوا يظهرون العداوة له عليه السلام.

و على الجملة فالخوارج [2] هم الطائفة الملعونة و الفئة الخبيثة المعهودة الذين كانوا يكفّرون بالذنب و قد خرجوا على أمير المؤمنين في صفّين و كذا كلّ من اعتقد بما أعتقده هذه الطائفة الكافرة من كفر الامام و استحلال قتاله و دمه كما انّ المتيقّن من الناصب هو العدوّ لآل محمّد (ص) و أهل البيت مع إظهار عداوته عداوة دينيّة لا كلّ اصطلاحاته [3] فإنّه على ما

قاله الفاضل المقداد رضوان اللّه عليه يطلق على خمسة أوجه و إليك كلامه بلفظه: قيل في تعريف الناصب وجوه:

______________________________

[1]. أقول: معذرة إلى سيّدنا الأستاد الأكبر دام ظله حيث انّ هذا محلّ التأمل فإنّ معاوية مثلا كان يقول في قنوت صلاته اللّهم ان أبا تراب الحد في دينك. و كم له نظير تلك الكلمات الاثيمة و يؤيّد ما ذكرنا من الإشكال مكالمة حدثت بين الحسين عليه السلام و معاوية حيث انّ معاوية بعد ان قتل حجرا و أصحابه حجّ في ذاك العام فلقي الحسين فقال: يا أبا عبد اللّه هل بلغك ما صنعنا بحجر و أصحابه و أشياعه و شيعة أبيك؟ فقال: و ما صنعت بهم؟ قال: قتلنا هم و كفّنّاهم و صلّينا عليهم فضحك الحسين ثم قال: خصمك القوم يا معاوية لكنّا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم و لا صلّينا بهم و لا قبرناهم. احتجاج الطبرسي فتأمّل.

[2]. قال العلّامة في التذكرة ج 1 ص 454: امّا الخوارج فهم صنف مشهور من المبتدعة يعتقدون تكفير أصحاب الكبائر و استحقاق الخلود في النار بها كشرب الخمر و الزنا و القذف و يستحلّون دماء المسلمين و أموالهم الّا من خرج معهم و طعنوا في علىّ و عثمان و لا يجتمعون معهم في الجمعات و الجماعات. و عندنا ان الخوارج كفار.

[3]. قال: دام ظله العالي: و ان كان مقتضى وجوب مودّتهم المستفاد من آية القربى و غيرها حرمة بغضهم و منافاة ذلك للدين مطلقا و على اىّ وجه كان.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 195

1- انّه الخارجي الذي يقول في على عليه السلام ما قال.

2- انّه الذي ينسب الى أحد المعصومين عليهم السلام ما يثلم العدالة.

3- من إذا

سمع فضيلة لعليّ عليه السلام أو لغيره من المعصومين أنكرها.

4- من اعتقد أفضليّة غير علىّ عليه السلام عليه.

5- من سمع النصّ على علىّ عليه السلام من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بلغه تواترا أو بطريق يعتقد صحّته فأنكره.

و الحقّ صدق النصب على الجميع، امّا من يعتقد امامة غيره للإجماع أو لمصلحة و لم يكن من أحد الأقسام الخمسة فليس بناصب. انتهى. «1»

و على الجملة فالمتيقّن من الإجماعات في الإطلاقات هو المتديّن بعداوته و قد فسّر في القاموس النواصب بذلك قال: و النواصب و الناصبيّة و أهل النصب المتديّنون ببغضه علىّ لأنّهم نصبوا له اى عادوه انتهى. و استوجهه صاحب الجواهر رضوان اللّه عليه. و لو كان المقصود من الخوارج أو النواصب مطلق المبغضين لأمير المؤمنين و كلّ من كان عدوّا له عليه السلام لأشكل الأمر فيما حكى من المعاشرة معهم و الحال انّ الاخبار دالّة على كفرهم و الإجماع قائم على ذلك و بذلك يتّضح ما ذكرنا من انّ عداوة الناس و بغضهم لعلىّ عليه السلام لم تكن من هذا الباب بل كانت للمعارضة في الملك و لأغراض شخصية و إنظار ماديّة قادتهم الى ذلك فكان فلان يطرد عليّا عن الخلافة مستدلّا و معتذرا بأنّه شابّ لم يمض من عمره حين وفات النبي أعوام كثيرة و حداثة سنّه توجب ان لا يطيعه الناس و لا ينتظم أمر الأمّة و انّ أبا بكر شيخ كبير عاش عمرا بين الناس يقبله عامّة الناس و يوقّرونه أو انّ عليّا (ع) قتل آباءهم و إخوانهم فلم يرتضوا بخلافته.

و قد نقل عن بعض علماء أهل السنة انّه قال: انّه صحّ ما قاله النبي (ص)

______________________________

(1). التنقيح الرائع

لمختصر الشرائع ج 2 ص 421.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 196

في فضائل على و مناقبه الّا انّ المتصدّين لأمر الخلافة قبله كانوا انسب لإدارة أمور الناس الى غير ذلك من الأعذار الفاسدة و الدّعاوي الواهية الّتي هي أوهن من بيت العنكبوت وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ.

ان قلت: فما تصنع بما قاله الإمام أبو جعفر عليه السلام: ارتدّ الناس بعد رسول اللّه الّا ثلاثة نفر سلمان و أبو ذر و المقداد. [1]

نقول: انّ هذا الارتداد ليس هو الارتداد المصطلح الموجب للكفر و النّجاسة و القتل، بل الارتداد هنا هو نكث عهد الولاية، و نوع رجوع عن مشى الرسول الأعظم، و عدم رعاية وصاياه، و لو كان المراد منه هو الارتداد الاصطلاحي لكان الامام عليه السلام- بعد ان تقلّد القدرة و تسلّط على الأمور- يضع فيهم السيف و يبدّدهم و يقتلهم من أوّلهم إلى آخرهم خصوصا بلحاظ أنّ توبة المرتدّ الفطري لا تمنع قتله و لا ترفعه بل يقتل و ان تاب.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه انّ إطلاق النواصب و الخوارج لا يشمل كلّ من كان له عداوة بأيّ ألوانها بل المسلّم منها العداوة الدينية و اتّخاذها دينا لنفسه يتقرب بها الى اللّه سبحانه. و هذه الفرقة الملعونة مع تلك العقيدة المشئومة قليلة جدّا اعتبروا أعداء لآل محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين و بهذا يعدّون من المنكرين لضرورة إسلامية و لا مجال للتّرديد و الارتياب في كفرهم و نجاستهم ابدا هذا و سيجي ء مزيد بيان لهذا في المباحث القادمة إنشاء اللّه تعالى.

______________________________

[1]. رجال الكشيّ ص 8 و ذيل ص 244 من الكافي ج 2، و ذيل الخبر هكذا: قال الراوي فقلت:

عمّار؟

قال: كان جاض جيضة ثم رجع.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 197

الكلام حول الغلاة

من جملة الفرق الّتي حكموا بكفرهم الغلاة و هم الّذين يألّهون أمير المؤمنين أو أحدا من الأئمة [1] و بعبارة أخرى أنّهم الذين تجاوزوا الحدّ في الأئمة عليهم السلام المعتقدون بألوهيّتهم أو نبوّتهم.

و يظهر من كلام المحقّق قدّس سرّه المذكور سابقا في بيان ضابط الكافر انّ الغلاة من جملة المنتحلين إلى الإسلام و انّما السبب في كفرهم هو إنكارهم الضروريّ.

و لكنّ الذي يظهر و يستفاد من بعض انّه لا تعتبر الغلاة من المنتحلين الى

______________________________

[1]. كما قد وقع ذلك بالنسبة إلى وليّ اللّه و عبده الخالص أمير المؤمنين عليه السلام فاعتقد فيه فريق ذلك. لكنّي لم أعثر على من قال و اعتقد بذلك بالنسبة إلى غيره من الأئمة سوى الامام الصادق عليه السلام فقد قال المحقّق في المعتبر ص 5: انّه انتشر عنه من العلوم الجمّة ما بهر به العقول حتّى غلا فيه جماعة و أخرجوه إلى حدّ الإلهيّة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 198

الإسلام و انّ بينهم و بين العقيدة الإسلاميّة مباينة جوهريّة من أوّل الأمر.

و نحن نقول: ان كان المراد من الانتحال الإقرار بالشهادتين و التسليم لهما فمن المعلوم انّ عدة منهم لو لم يكن كلّهم لا يقرّون بذلك نعم يمكن توجيه عبارة المحقّق بأنّ المراد من الانتحال هو الانتساب بحسب الادّعاء فالغالى ينسب نفسه إلى الإسلام و يدّعى انّه مسلم [1] لا بإقراره بالشهادتين و الالتزام بلوازمهما.

لا يقال انّهم مقرّون بهما الّا انّهم يطبّقون- اللّه تعالى- على الامام علىّ عليه السلام قائلين انّه المصداق و المقصود.

لأنّا نقول: انّ هذه الشهادة لا تنفع شيئا و لا تعتبر شهادة في

الحقيقة لأنّ المراد من «اللّه» الذي يذكر في الشهادة هو اللّه الواحد الأحد الذي بيده الخلق و له الأمر و اليه المرجع و المصير الذي يقرّ و يذعن به المؤمنون و يعتقده كافّة الموحّدين و ينكره الكافرون و اين هذا من الاعتقاد بربويّة أمير المؤمنين و كون (اللّه) هو علىّ عليه السلام أو اتّحاده معه أو حلوله فيه بل ليس هذا الّا الكفر المحض و الضلال العظيم لانّه لا ربّ الّا رب العالمين و لا إله الّا إله الخلق أجمعين.

و التحقيق انّ الاعتقاد بألوهيّة أمير المؤمنين و قصده من لفظ الجلالة كفر رأسا و موجب لعدم الإقرار بالشهادة أمّا اعتقاد الحلول فيه، أو الاتّحاد معه تعالى، مع ذكر الشهادتين فهو إنكار للضروريّ مع الانتحال إلى الإسلام. امّا إذا كان الغالي ناسبا الى علىّ عليه السلام صفة من صفات اللّه تعالى المختصّة به كالأحياء و الإماتة أو انّه لا تأخذه سنة و لا نوم أو قال بتفويض الأمور اليه مع كون

______________________________

[1]. قال السيد الأصفهاني قدّس سرّه في الوسيلة المحشّى بحاشية سيّدنا الأستاذ ج 3 ص 193:

مسئلة 7 لا يجوز للمؤمنة أن تنكح الناصب المعلن بعداوة أهل البيت عليهم السلام و لا الغالي المعتقد بألوهيّتهم أو نبوّتهم و كذا لا يجوز للمؤمن أن ينكح الناصبة و الغالية لأنّهما بحكم الكفار و ان انتحلا دين الإسلام.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 199

اللّه بمعزل عنها فهذا كفر باللّه تعالى لنقض توحيد الأفعال بهذه الاعتقادات الفاسدة و التمويهات الكاسدة فانّ أزمّة الأمور كلّها بيد اللّه تعالى.

و لو قال الغالي و اعتقد بأنّ النبي أو الوصي أو الأئمة عليهم السلام ليسوا بشرا فهذا تكذيب للقرآن الكريم حيث يقول قُلْ

إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ [1] و هذا صريح في انّ النبيّ الأعظم صلى اللّه عليه و آله و سلم الذي هو أفضل الخلائق كلّها ايضا بشر، الّا انّه كان في أعلى درجات الكمال حيث كان يوحى إليه فهو من هذه الحيثية نظير ما لو قال بأنّ مسيلمة نبيّ من أنبياء اللّه فإنّه تكذيب لقوله تعالى وَ لٰكِنْ رَسُولَ الهِٰية وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ «1» و لو فرض أنّ مسيلمة بحسب الذات كان قابلا و صالحا لذلك.

و الحاصل: انّه لو آل الأمر و انجرّ الغلوّ إلى إنكار الصانع تعالى أو الى إثبات شريك له أو الى نسبة صفة من صفات اللّه تعالى الّتي يجب الاعتقاد بها الى الغير أو الى تكذيب القرآن فلا محالة يوجب الكفر و النجاسة. و يستحقّ الغالي بذلك ما أعدّه اللّه للكافرين و قد كانت الأئمة عليهم السلام يتبرّأون منهم و يطردونهم و يعاقبونهم. [2]

______________________________

[1]. سورة الكهف الآية 110.

أقول: و هنا لطيفة لا يخلو ذكرها عن فائدة و هي انّ واحدا من تلامذة الأستاذ الأعظم دام ظلّه استشكل عليه في هذا اليوم- 21 ذي القعدة الحرام 1388 ه- و في هذا المقام اى عند انجرار البحث الى هذه المطالب و ذكر الأستاذ الآية الكريمة فقال معترضا عليه بأنّه فكيف ورد في القرآن الكريم مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلّٰا مَلَكٌ كَرِيمٌ فأجابه سيّدنا الأستاذ دام ظله بداهة انّ هذا كلام النساء- نساء مصر- و هن قد قلن ذلك ما أنت و كلام النساء؟ و ضحك هو و الفاضل المستشكل و الجمّ الغفير الحاضرون.

[2]. أقول: فعن ابى عبد اللّه قال: اتى قوم أمير المؤمنين فقالوا السلام عليك يا ربّنا فاستتابهم فلم يتوبوا

فحفر لهم حفيرة و أو قد فيها نارا و حفر حفيرة أخرى إلى جانبها و افضى بينهما فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة و أو قد في الحفيرة الأخرى حتّى ماتوا الكافي ج 7 ص 257 و وسائل الشيعة

______________________________

(1). سورة الأحزاب الآية 40.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 200

و امّا إذا كان الغالي مقرّا بالتوحيد بجميع مراحله و معانيه و لم يعتقد خلاف ضروريّ الإسلام، و ما هو ثابت بالقطع، فاعتقاد شي ء لم يكن صدوره من البشر محالا بل كان صدوره من الإنسان و لو في فرد منه الأوحديّ أو في فئة قليلة منه لا يوجب الكفر كما إذا اعتقد في النبيّ أو الأئمة عليهم السلام الحدّ العالي الذي هم عليه مثل ان اعتقد عدم سهوهم أصلا كما انّ كثيرا من العلماء قائلون

______________________________

ج 18 ص 552 ب 6 من أحكام المرتدّ ح 1.

و عن ابى جعفر و ابى عبد اللّه عليهما السلام انّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلا من الزطّ فسلّموا عليه و كلّموه بلسانهم فردّ عليهم بلسانهم ثم قال: انّى لست كما قلتم آنا عبد اللّه مخلوق فأبوا عليه و قالوا أنت هو فقال لئن لم تنتهوا و ترجعوا عمّا قلتم في و تتوبوا الى اللّه لأقتلنّكم فأبوا أن يرجعوا و يتوبوا فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها الى بعض ثم قذفهم فيها ثم خمّر رؤوسها ثم ألهبت النار في بئر منها ليس فيه أحد منهم فيدخل عليهم الدخان فيها فماتوا. كافي ص 259 وسائل الشيعة ص 553.

و كان الامام الصادق عليه السلام يلعن الغلاة و يكفّرهم عموما و خصوصا و قال

عليه السلام لمرازم: قل للغالية: توبوا الى اللّه فإنّكم فسّاق كفّار مشركون.

و قال عليه السلام له: إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري و قل له: يقول لك جعفر بن محمّد: يا كافر يا فاسق أنا بري ء منك. قال مرازم: فلمّا قدمت الكوفة قلت له: يقول لك جعفر بن محمّد: يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بري ء منك قال بشار: و قد ذكرني سيّدي؟ قلت: نعم ذكرك بهذا قال:

جزاك اللّه خيرا.

و لمّا دخل بشار الشعيري على ابى عبد اللّه عليه السلام قال له: اخرج عنّى لعنك اللّه و اللّه لا يظلّنى و إيّاك سقف ابدا فلمّا خرج قال عليه السلام: ويله ما صغّر اللّه أحدا تصغير هذا الفاجر انّه شيطان ابن شيطان خرج ليغوي أصحابي و شيعتي فاحذروه و ليبلّغ الشاهد الغائب انّى عبد اللّه و ابن أمته ضمّتنى الأصلاب و الأرحام و انّى لميّت و مبعوث ثم مسئول.

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام يوما لأصحابه: لعن اللّه المغيرة بن سعيد لعن اللّه يهوديّة كان يختلف إليها يتعلّم منها الشعر و الشعبذة و المخاريق إنّ المغيرة كذب على ابى، و انّ قوما كذبوا علىّ ما لهم؟ إذا قهم اللّه حرّ الحديد، فواللّه ما نحن الّا عبيد خلقنا اللّه و اصطفانا، ما نقدر على ضرّ و لا نفع الّا بقدرته ان رحمنا فبرحمته و ان عذّبنا فبذنوبنا و لعن اللّه من قال فينا مالا نقول في أنفسنا و لعن اللّه من أزالنا عن العبوديّة للّه الذي خلقنا و اليه مآبنا و معادنا و بيده نواصينا. راجع الامام الصادق و المذاهب الأربعة ج 1- 2 ص 235.

و نلفت نظر القارئ الكريم إلى انّه قد الّف

كتب قيّمة مستقلّة حول موقف الأئمة الطاهرين عليهم السلام من الغلاة و تبرّيهم عنهم و الجهر بلعنهم.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 201

بذلك في قبال الشيخ الصدوق أعلى اللّه مقامه المعتقد بسهو النبي (ص) حتّى انّه قال: لو وفّقني اللّه تعالى اصنّف كتابا في ذلك [1] و قال بعض العلماء: الحمد للّه الذي لم يوفّقه لذلك.

و على الجملة فاعتقاد عدم سهو النبي ليس من الغلوّ الموجب للكفر فإنّه أمر ممكن للإنسان، و ليس بمحال ان يوجد فرد لا يسهو أبدا لأنّ شأن الأشخاص من جهة السهو و الخطأ وجودا و عدما قلّة و كثرة مختلف، فقد يرى من لا يخلو صلاته من السهو ابدا بل يشكّ في كل شي ء و ينسى حينا بعد حين- و أنت تعلم انّ لكثير الشك في الفقه أحكاما- كما انّه قد يوجد من يدّعى انّه لا يسهو ابدا و يقول:

ليس ببالي إنّي سهوت أو شككت في الصلاة مثلا و لو مرّة واحدة في العمر، فحيث انّ أصل هذه الصفة غير خارج عن طوق البشر كلّه بل هو أمر ممكن في حقه، فلذا لا بأس باعتقادها في حقّ النبيّ أو الأئمة عليه السلام.

و قد جرى بحث و مناظرة لطيفة بيننا و بين قاضى القضاة بمدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله عند ما تشرّفنا الزيارة في السفرة الاولى و قد دعوناه لنستأذن منه في إقامة حفلة عزاء لشهيد الحقّ و الإنسانيّة مولانا الحسين أيّام العاشوراء و

______________________________

[1]. أقول: الظاهر انّ نظره دام ظله الى ما قاله الصدوق في الفقيه ج 1 ص 360 في أحكام السهو و إليك نصّ كلامه: و انا احتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات

سهو النبي و الردّ على منكريه إنشاء إله تعالى انتهى.

و حكى قدّس سرّه عن شيخه ابن الوليد انه كان يقول: انّ أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبي صلى إله عليه و آله انتهى.

و في الدر المنثور للشيخ على حفيد الشهيد الثاني ج 1 ص 110: و يحكى عن الشيخ بهاء الدين طاب ثراه انّه سأله سائل عن سهو النبي صلّى اللّه عليه و آله و عن كون الصدوق يعتقد ذلك فأجابه بأنّ ابن بابويه اولى بالسهو من النبي عليه السلام انتهى.

و في الأنوار النعمانية ج 4 ص 34 قال الشيخ بهاء الدين في جملة كلامه: ان نسبة السهو الى ابن بابويه اولى من نسبتها اليه (ص) و قال ايضا: عند قول ابن بابويه و ان وفّقنا اللّه صنفنا كتابا في كيفية سهو النبي: الحمد للّه الذي لم يوفقه لتصنيف ذلك الكتاب.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 202

ذكري مصائب سيّد الشهداء عليه السلام و ما أصابه في سبيل اللّه فلبّى دعوتنا مشكورا و حضر مسجد رسول اللّه و هناك دار البحث بيننا حقّ انجرّ الكلام الى ان قال لنا: أنتم غالون، تستشفون من النبي و الامام، و تقولون انّهم أحياء، الى غير ذلك من الأمور فقلنا في جوابه.

أوّلا: و أنتم أيضا كذلك أ لم تكونوا تسلّمون على رسول اللّه و تقولون:

السلام عليك يا نبىّ اللّه؟ فلو انّه صلّى اللّه عليه و آله قد مات و لا يشعر شيئا و لا يسمع سلام المسلّم عليه فما معنى مبادرتكم الى المثول في حضرته و الوقوف على قبره و سلامكم عليه كسلامكم على الأحياء؟

و ثانيا: هب انّ ما ذكرته كان من الغلوّ فهل مطلق الغلوّ يوجب

الكفر؟ و هل القول بحياة النبيّ مثلا و انه يسمع سلام المسلّم عليه باذن اللّه تعالى غلوّ مضرّ بالتوحيد؟.

و الحاصل: انّ هذه الأمور ليست غلوّا في شأنهم [1] فإنّ المراد من حياتهم هو انّهم بعد الموت يسمعون الكلام و يطّلعون على الحوادث و الوقائع كما تقول في زيارة الإمام أمير المؤمنين أشهد أنّك تسمع كلامي و تشهد مقامي [2] و هذه المزايا و ان لم تكن عادية يجدها كلّ الناس و عامّتهم الّا انّها ليست من صفات اللّه الخاصة به لانّ الاطّلاع على الأمور و العلم بالحوادث حتى بعد الموت ليس من صفات الباري تعالى.

______________________________

[1]. و كيف تكون غلوّا في حقّهم عليهم السلام و قد أثبتها اللّه في حق الشهداء بقوله الكريم وَ لٰا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ. (سورة آل عمران الآية 196 و 197) فقد صرّح بحياة الشهداء و كونهم مرزوقين عند اللّه و فرحين، فإذا كان هذا حال الشهداء فكيف بالأئمة الطاهرين الذين هم سادات الشهداء و من علم الشهداء درس الشهادة و الهموهم رموز الكرامة و السعادة؟

[2]. و في العبارات الواردة لإذن الدخول في الأعتاب المقدسة: و اعلم انّ رسولك و خلفائك عليهم السلام احياء عندك يرزقون يرون مقامي و يسمعون كلامي و يردّون سلامي.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 203

و كذلك القول بعصمة شخص أو أشخاص مثل النبيّ و الأئمة فإنّها أمر غير خارج عن طاقة الإنسان في الجملة لأنّ الناس مختلفون في الاجتناب عن المعاصي ففرقة منهم يعصون اللّه كثيرا و من كان كذلك فهو فاسق متهتّك و فرقة لا يعصون اللّه الّا شاذا نادرا

و أحيانا، و من كان كذلك فهو العادل و ثلّة من النّاس لا يعصون اللّه تعالى ابدا و لا يخرجون عن زيّ العبوديّة و منهاج الطاعة حتّى و لو في آن من الآنات و حين من الأحيان و من كان كذلك فهو المعصوم و هذا المقام مقام العصمة و هي لطف خفيّ من الألطاف الإلهيّة العظيمة فاعتقادها في حقّ أحد لا يكون ضائرا أصلا.

و صفوة الكلام انّه بعد الإقرار بالتوحيد بمراتبه و شئونه فإثبات صفة غير مختصّة باللّه تعالى لأحد من الناس سواء أ كان واجدا لها كاثبات العصمة، أو العلم بخفايا الأمور، أو المعجزة، أو الشفاعة، أو كونه مستجاب الدعوة للأئمة عليهم السلام أو فاقدا لها و غير أهل لها كاثبات تلك المزايا لغير الأنبياء و الأئمة، و الاعتقاد في أحد بأزيد ممّا هو عليه و حقيق به، حتّى مثل الاعتقاد بكون فرعون مستجاب الدعوة لا يوجب الكفر من هذه الجهة فإنّ القائل بهذه الأمور المثبت لها للأنبياء و الأئمة فلا يقتضي قوله بها خللا في التوحيد حيث انّه يقول انّها ثابتة لهم باذن اللّه و مشيّته بعد إمكان تحقّقها لغير اللّه تعالى.

و امّا من أثبتها لغيرهم عليهم السلام فهو مجرّد غلط صدر منه حيث انه نسب أمورا- يمكن وقوعها من البشر و تحقّقها له- الى من لم تكن له أهليّة ذلك و من هو فاقد لها.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 205

البحث حول المجسّمة

من جملة الفرق الّتي حكموا بكفرها المجسّمة اى القائل بتجسّمه تعالى بعد الاعتراف بالمفهوم من لفظ الجلالة، و لا يخفى أنّ المجسّمة على قسمين:

أحدهما: القائلون بالتجسّم بالحقيقة و هو القول بأنّ اللّه تعالى جسم حقيقة كسائر الأجسام فكما انّ الإنسان

جسم و له أبعاد ثلاثة فكذلك اللّه تعالى لفظا بلفظ [1] و هذا القول مستلزم لحدوثه تعالى و تركيبه و تحيّزه و تحديده و حاجته و لا محالة يحكم على المعتقد به بالكفر و النجاسة.

لا يقال يمكن ان يقول مع ذلك بأنّه تعالى قديم فالقول بالتجسّم غير مستلزم للكفر.

______________________________

[1]. أقول: قال ابن ابى الحديد في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 119: و كان في العرب مشبّهة و مجسّمة منهم أميّة بن ابى الصلت و هو القائل: من فوق عرش جالس قد حطّ رجليه الى كرسيّه المنصوب.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 206

لأنّا نقول: إذا قال بالتجسّم و القدم فلا بدّ من ان يكون اجزاء هذا الجسم ايضا قديما و يلزم من ذلك تعدّد القدماء و هو ايضا كفر باللّه العظيم.

ثانيهما: القول بالتجسّم بالتسمية و هو القول بأنّ اللّه جسم لا كالأجسام فهو في الحقيقة مجرّد اسم و هذا نظير إطلاق الشي ء على اللّه الذي رخّص في الروايات الشريفة و قد ورد في بعض الاخبار انّه تعالى شي ء لا كالأشياء [1] و على اىّ حال فالمعتقد بهذه العقيدة يقول انّ اللّه جسم و لكنّه ليس كسائر الأجسام بلا توجّه إلى حقيقة الجسم و لوازمه من الحدوث و الافتقار و التركيب، أو جاحدا و نافيا لها عن اللّه تعالى مع الالتفات إليها بأنّ اللّه ليس حادثا و لا مركّبا و لا متحيّزا و لا مفتقرا و انّما هو جسم، و كأنّه يتناقض في أقواله.

و يشكل إطلاق المجسّمة و صدقها عليه و شمول الإجماع و الضرورة القائمين على كفر المجسمة له.

و يؤيّد ذلك انّه قلّ في سواد الناس و عامّتهم من كان ملتفتا الى انّ قوله

بتجسّمه تعالى مستلزم لحدوثه و تحيّزه و غير ذلك من الآثار و التوالي الفاسدة فإنّ إفهامهم بسيطة و عقولهم محدودة، بل قد يتّفق انّه يشكل على العامّة و ذوي الأفهام القاصرة تصوّر عدم المكان للّه تعالى في حاضر الإسلام و ماضيه حتّى في صدر الإسلام و عصر النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذهبي.

و كان شيخنا الأستاذ الحائري قدّس سرّه الشريف [2] ينقل انّه لمّا نزل قوله

______________________________

[1]. سئل أبو جعفر عليه السلام أ يجوز ان يقال: انّ اللّه عزّ و جلّ شي ء؟ فقال نعم يخرجه عن الحدّين حدّ التعطيل و حدّ التشبيه. و عن هشام بن الحكم عن ابى عبد اللّه انّه قال للزنديق حين سأله ما هو؟ قال: هو شي ء بخلاف الأشياء. توحيد الصدوق الطبع الحديث ص 104 باب انه تبارك و تعالى شي ء ح 1 و 2.

[2]. شيخ مشايخنا العظام و آية اللّه الملك العلّام، مشيّد أركان الحوزة العلميّة، صاحب النفس الطاهرة القدسيّة، المتّصف بمكارم الأخلاق و محاسن الصفات، و الحائز أعالي مراتب العلم و الكمال، حضرة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري أعلى اللّه في الخلد مقامه و رفع اللّه في روض

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 207

تعالى:

______________________________

القدس اعلامه.

أصله من مهرجرد، قرية من قرى يزد و قد ولد بها في سنة 1276. ه والده محمد جعفر المهرجردى و هو و ان لم يكن من العلماء لكنّه كان من الصلحاء الأتقياء، بل و ممّن يعدّ مثلا لأهل التقوى.

و قد شرع في تحصيل العلوم الدينيّة المتداولة في قريته ثم في يزد، الى ان هاجر الى كربلاء، و على رأس حوزته المحقّق النحرير الصمداني، الفاضل الأردكاني رضوان اللّه عليه، و قد

أرشده و شوّقه في المهاجرة إلى سامرّاء التي كانت آنذاك مركز الثقافة الإسلاميّة و الحوزة العلميّة العظيمة و مجمع رجالات العلم و الفقاهة و كانت تشدّ إليها الرحال و تأوي إليها النزّال، كلّ ذلك في ظلال الزعيم العالمىّ الذي طار صيته السامية في ارجاء العالم الإسلامي آية اللّه العظمى المجدّد السيّد ميرزا محمد حسن الشيرازي قدّس اللّه نفسه الطاهرة، و كتب الفاضل الأردكاني الى السيّد المجدّد كتابا عرّف فيه الشيخ عبد الكريم و اطراه فيه بالثناء الجميل و المدح البالغ و أوصاه به، و كأنّه كان قد قرء في صفحة جبينه المضي ء خطوط الرشد و الجلالة و رأى منه انّه ينبثق استعداداته المكنونة و قواه المكمونة و انه تنمو مواهبه في جوّ حارّ علميّ مثل حوزة سامراء السامية و تحت أشراف السيّد المجدّد، و على الجملة فهاجر إليها و أخذه المجدّد الشيرازي تحت ظلال انعامه و إحسانه و تتلمذ هناك على فحول العلماء و أساطين الدين و أكابر الاساتذة من الفقهاء و الأصوليّين، كالشيخ فضل اللّه النوريّ الشهيد قدّس سرّه، و الميرزا إبراهيم المحلّاتى الشيرازي، و الميرزا محمّد تقي الشيرازي، و السيّد محمّد الفشاركي، بل و حضر برهة من الزمان في مجلس درس المجدّد الشيرازي- على ما حكاه لي نجله المرتضى قدّس سرّه الشريف، و لكن كان عمدة استفادته من محضر السيّد الفشاركي فقد تعلّق به كثيرا و اتّصل به شديدا و حكى من شدّة تعلّقه و كمال اتّصاله به ما يبهر لديه العقول و لم يقرع الأسماع من أحد كان كذلك بالنسبة إلى أستاذه فكان يؤثره على نفسه و جعل نفسه منه موضع الخادم من مخدومه، و قد نقلنا نبذا من القضايا العجيبة المنقولة

عنه في هذا الموضوع، في كتاب الّفناه في ترجمته و شرح أحواله، و حقّ القول ايّها القارئ الكريم انّه من أعجب الأعاجيب.

ثمّ انّه كان مصرّا على التحصيل و التحقيق و مجدّا في الأخذ و الاستفادة منه و الاستضائة من أنواره و عاكفا على بابه الى ان نعى الإسلام بوفاة السيّد المجدّد سنة 1312 ه و نعق غراب البين فتفرّق الاعلام و الأساطين، و الاساتذة و الفطاحل فبعض قد بقي في سامرّاء و بعض- و هو أكثرهم- قد راح الى نجف أو غيره من البلدان و منهم السيّد الفشاركي فقد خرج الى نجف و صحبه تلميذه اليزدي الحائري و لا يزال كان يستضي ء من نور علمه الى ان وافي السيّد الأجل في سنة 1316 و بعد ذلك فقد اتّصل الحائري قدّس سرّه بالمحقّق الفريد الآخوند الخراساني- صاحب الكفاية- قدّس سرّه.

ترى انّه يعبّر في الدرر عن السيّد الفشاركي ب سيّدنا الأستاد طاب ثراه. و عن الخراساني ب شيخنا الأستاد دام بقاه. و عن المجدّد ب سيّد مشايخنا الميرزا الشيرازيّ. ثم لمّا جرى بعض الجريانات

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 208

______________________________

السياسيّة و كان لا يحبّ ان يكون فيها بل كان يرجّح ان لا يكون في نجف كي يكون بمعزل عنها، فلذا خرج الى كربلا، و اشتغل هناك بالتدريس و التحقيق الى ان هاجر من كربلا الى أراك- من بلاد إيران- بدعوة بعض الاثرياء من رجال العلم و استقرّ هناك و شرع في التدريس و تربية الطلاب و اجتمع حوله روّاد العلم و عشّاق الفضيلة و الكمال من كلّ صقع و ناحية، و ممن كان في طليعتهم تلميذه الجليل القدر سيّدنا الأستاذ الأكبر آية اللّه العظمى السيّد الگلپايگاني

مد ظلّه العالي فقد خرج في أوان شبابه من مولده متوجّها الى أراك و لسان حاله: انّى ذاهب إلى ربّي سيهدين، و لمّا نزل أراك و التقى بالشيخ عبد الكريم و الحائري وجد ما كان يطلبه و عكف عليه إلى نهاية مدّة اقامة أستاذه في أراك.

ثمّ انه قدّس اللّه نفسه هاجر سنة 1340 الى قم و أحيى في هذه البلدة الطيّبة ما درس من آثار السابقين، و اقام الحوزة العلميّة هذه الحوزة العظيمة القيّمة، و كان على ما ينقل من حاله مشوّقا لأهل الفضل خصوصا بالنسبة الى من كان يحسّ منه نبوغا و يحدس فيه شأنا رفيعا.

و بعد ان هبط مدينة قم و عزم على الإقامة فيها أرسل كتابا الى تلميذه المحبوب لديه السيّد الگلپايگاني دام ظلّه العالي و كان هو بعد في أراك و دعاه الى ان يهاجر من أراك الى قم و يلحق به و يكون في صحبته فهاجر مدّ ظلّه على اثر ذلك الى قم و لحق به.

و لا يزال مؤسّس هذه الحوزة السامية آية اللّه العظمى الحائري قدّس سرّه يجدّ بتمام سعيه في تحكيم أساس الدين و حفظ حوزة المسلمين.

و ممّا اتحف اللّه سبحانه و تعالى هذا الرجل العظيم به ان وفّق لتربية عدّة غير يسيرة من العلماء الاعلام و الفقهاء الكرام، و قد قيّض اللّه تعالى له ان صار جمع من تلامذته من مراجع الأمّة الإسلاميّة، منهم حسنة الدهر و سيد فقهاء العصر، المرجع الأعلى آية اللّه العظمى الگلپايگاني دام ظلّه العالي.

و على الإجمال فقد خصّ اللّه تعالى آية اللّه المؤسّس الحائري هذا الرجل المخلص و العبد الصالح بمواهب عظيمة و اختاره لتلك المواقف الكريمة من أهمّها تأسيس الحوزة العلميّة

بقم، و منها حدّة نظره و بصيرته النافذة و خطّه السياسيّ العريق و هو إغفال العدوّ السّفاك عن قدرته و نفوذه البالغ في أعماق نفوس الأمّة الإسلامية، و حفظ كيان المسلمين و دفع ما كان يهدّد أساس الدين من حملات الحكومة الأجنبيّة و عميلها الطاغوت الخائن (الپهلوى) الفاجر، خذله اللّه و أخزاه.

و منها تلك الأخلاق الفاضلة و الشيم الطاهرة، و وصوله الى مقام كريم لم ير للدنيا و ما فيها ثمنا، الى غير ذلك ممّا خصّه اللّه تعالى به و اختاره اللّه له، و حقيق ان يقال فيه: هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم.

و قد افل هذا النجم اللامع عن سماء الفقاهة و التقوى في 17 ذي القعدة سنة 1355 في قم و ارتحل عن دار الغرور الى مستقرّ رحمه اللّه الواسعة في دار السرور ملبّيا دعوة ربّه الكريم و خسر

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 209

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلىٰ بَعْضِ أَزْوٰاجِهِ حَدِيثاً فَلَمّٰا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّٰهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّٰا نَبَّأَهٰا بِهِ قٰالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هٰذٰا قٰالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» «1» قالت فلانة لزميلتها: انّ اللّه سمع من فوق العرش.

فكانت تتصوّر انّ اللّه تعالى جالس على العرش، و لم تشعر انّه تعالى منزّه عن المكان و غيره من لوازم الجسم.

و يؤيّد ذلك ايضا انّه لا يزال المسلمون يلتزمون برفع أيديهم و نصب وجوههم الى السماء عند ادعيتهم و ابتهالاتهم مع انّ نسبة الجهات اليه تعالى متساوية، و يمكن توجيه الأيدي إلى الأرض مثلا بدلا عن السماء، قال اللّه تعالى:

فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ «2» و تفهيم كثير من العوامّ تلك الأمور و انّ التوجّه إلى القبلة أو الى

السماء انّما هو للأمر بذلك و لأنّ الرحمة تنزل من السماء مثلا و غير ذلك من الجهات و الأسرار صعب جدّا، و ليس كلّ أحد يفهم هذه المطالب و يدركها حتّى يحصل له- بمجرّد الإقرار بالشهادتين- الاعتقاد بكلّ الخصوصيّات بلا اىّ نقصان فهذا هو شأن الأوحديّ و الخواصّ كامام العارفين أمير المؤمنين علىّ عليه السلام حيث يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا «3» و الحاصل: انّه لمّا لم يكن تلك المطالب ضروريّة يعلمها كلّ أحد بل يعجز عن دركها عقول كثير من الناس، و يقصر إفهامهم، فلذا لو كان قد اشتبه

______________________________

هنالك المسلمون و افتقدوا مرجعا دينيّا عظيما و الحوزة العلميّة أبا شريفا و والدا بارّا كريما و قائدا روحيّا و زعيما كبيرا، و ذلك بعد ان تجرّع من حكومة عصره الملعونة غصصا عظيمة و ثلم في الإسلام بموته ثلمة لا يسدّها شي ء، فرحمة اللّه و رضوانه على روحه الطاهرة و أفكاره العالية و أنزله اللّه تعالى أعلى درجات القدس و ارفع غرف الفردوس مع النبيّين و الصّدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا.

و هو و ان مات على ما هو السّنّة الجارية الحاكمة على كلّ الموجودات و لكن ما ماتت معالمه السنيّة، فكلّ سطر من حياته الطّيّبة درس عميق للباقين. و السلام.

______________________________

(1) سورة التحريم الآية 3.

(2) سورة البقرة الآية 115.

(3) شرح مأة كلمة، لابن ميثم ص 52، إرشاد القلوب للديلمي الباب 37، أنوار الولاية ص 406.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 210

الأمر على أحد و تخيّل بأنّ اللّه جسم لا كالأجسام فليس هو محكوما بالكفر، هذا حال الجاهل.

و امّا من كان عالما بمعنى الجسم و بلوازم القول بالتجسّم و آثاره

فالقول بعدم كفره مشكل، و لا يقاس هذا بمن يقول انّ اللّه شي ء لا كالأشياء، الذي نصّ الامام عليه السلام على جوازه، لأنّ الشي ء لكثرة شموله و شدّة اتّساع مفهومه ليس محاطا للذهن فيشمل حتّى مثل الباري تعالى باعتبار صرف وجوده بخلاف القول بأنّه تعالى جسم لا كالأجسام فإنّه نظير القول بأنّه تعالى مركّب لا كالمركّبات و بعبارة أخرى هو في حكم القول بأنّه تعالى مخلوق لا كالمخلوقات فالنتيجة انّ العالم بمعنى الجسم و لوازمه لو نسبه الى الباري و لو بهذا النحو الخاص فالظاهر انّه يصير كافرا.

و امّا ما رمى به هشام بن الحكم من القول بالتجسيم ففيه:

أوّلا: انّه ليس المقصود هو التجسيم بالحقيقة، بل الظاهر منه انّ المراد انّ اللّه جسم لا كالأجسام.

و ثانيا: انّ أكثر أصحابنا على ما قاله علم الهدى السيّد المرتضى قدّس سرّه الشريف يقولون انّه أورد ذلك على سبيل الجدل و المعارضة للمعتزلة لا اعتقادا به حيث انّهم كانوا يقولون انّ اللّه شي ء لا كالأشياء فقال لهم: إذا قلتم انّ القديم تعالى شي ء لا كالأشياء فقولوا انّه جسم لا كالأجسام انتهى «1» و على هذا فهو قد قال بذلك في مقام النقض عليهم لا انّ هذا الكلام صحيح عنده أو انّه رحمه اللّه كان معتقدا بذلك، فإنّه من أجلّاء الأصحاب و ممدوح بمدائح بليغة. [1]

______________________________

[1]. أقول: و قد يقال في الجواب عن هذا الاشكال: انّ هذا كان قبل رجوعه الى الامام جعفر بن محمّد فلمّا رجع اليه تاب و رجع الى الحق.

قال الكراجكي في كنز الفوائد ص 199: و امّا موالاتنا هشاما رحمه اللّه فهي لما شاع عنه و

______________________________

(1). راجع الشافي للسيد المرتضى ص 12.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار،

ص: 211

و الحاصل: انّ القول بالتجسيم يتصوّر على أنحاء و صور:

فتارة يكون بحيث ينكره المسلمون كافّة مثل ان يقول انّ اللّه تعالى مركّب من ثلاثة أشياء فإنّه بمكان من الفساد و البطلان عند المسلمين و يتلوه في وضوح البطلان القول بأصل تجسّمه الذي قال به بعض العامّة.

- و قد لا يكون بطلانه بهذه المثابة من الوضوح بل يحتاج الى الاستدلال و اقامة البرهان و هو الأمر النظري الذي يحتاج إثباته إلى دليل عقليّ أو نقليّ و هنا لا يمكن الحكم بالكفر لعدم كفر منكر الأمر النظري.

فترى انّ علم التحقيق شيخنا المرتضى قدّس سرّه قال بعد تحقيقه في العقائد الضروريّة: و امّا النظريّة فلا إشكال في عدم كفر منكرها إذ لم يرد دليل على كفره بالخصوص انتهى. «1»

نعم لو ورد دليل خاص على كفر من اعتقد بأمر خاص من تلك الأمور يؤخذ به مع انّه ليس من الضروريّات نظير ما ورد في الاخبار عن الامام الصادق عليه السلام: من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا المعراج و المسائلة في القبر و الشفاعة. «2»

و على هذا فبدون دليل خاصّ لا يحكم بكفر القائل بالتجسّم لو لم يكن

______________________________

استفاض منه من تركه للقول بالجسم الذي كان ينصره و رجوعه عنه و إقراره بخطائه فيه و توبته منه و ذلك حين قصد الإمام أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام الى المدينة فحجبه و قيل له: انّه قد آلى ان لا يوصلك اليه ما دمت قائلا بالجسم فقال: و اللّه ما قلت به الّا لأنّي ظننت انّه وفاق لقول امامى فإذا أنكره علىّ فإنني تائب الى اللّه منه فأوصله الإمام عليه السلام حينئذ اليه و دعا

له بخير انتهى.

و في طهارة السمناني ص 394: و ما ينسب الى هشام بن الحكم من التجسّم افتراء و بهتان، و شأنه أجلّ من هذه الخرافات الى آخر كلامه الذي فيه نوع اهانة بالنسبة إلى علم الهدى قدس إله نفسه و روح سائر الأصحاب.

______________________________

(1). طهارة الشيخ ص 312.

(2). أمالي الصدوق ص 177 المجلس 49.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 212

قوله منافيا للتوحيد بمراتبه الأربعة و لم يكن هو بنفسه ملتزما بالتوالي الفاسدة، و إثبات كفره يحتاج الى دليل خاص و هو غير موجود في المقام.

نعم ورد عن مولانا الرضا عليه السلام: من قال بالتشبيه و الجبر فهو كافر مشرك و نحن منه برآء في الدنيا و الآخرة «1». لكن يرد عليه.

أوّلا: انّ الرواية ضعيفة [1].

و ثانيا: انّ المراد من التشبيه القول بأنّ اللّه تعالى في جهة الفوق و يمكن ان يرى، و غير ذلك من خصوصيّات الجسم الحقيقي و مزاياه، و قد عدل العلماء عن الاستدلال بها حتّى في التجسّم بالحقيقة و استدلّوا بلزوم التركيب و الحدوث و المكان مثلا و ليس هذا الّا لضعفها فلذا لا يمكن التمسّك بها في إثبات كفر من قال بأنّ اللّه جسم لا كالأجسام و لو لم يلتفت الى لوازمه أو انّه أنكرها بعد ان ثبت إسلامه بإقراره بالشهادتين، بل يحمل الكفر في الرواية على ما يقابل الايمان لا الإسلام، و لا دليل آخر على كفره.

اللّهم الّا ان يكون المسألة مجمعا عليها و لو بين الإماميّة.

و الحاصل: انّ التجسّم من الصفات السلبيّة و هي صفات يحب الاعتقاد بنزاهة ساحة قدّس اللّه تعالى و برائته عنها و من المعلوم انّ من أنكر واحدة منها غفلة عن لوازمها و آثارها

ليس بكافر خصوصا مع لحاظ بعد هذه المطالب عن مستوي عقول العامة و أفق افكارهم.

الا ترى انّه إذا قيل لواحد منهم انّ اللّه عالم. يتخيّل انّ علمه تعالى كعلمنا زائد على الذات مع انّ علمه عين ذاته فهو لا يتصوّر و لا يتعقّل اتّحاد العلم مع

______________________________

[1]. فانّ في: سلسلة الرواية على بن معبد مثلا و قد قال المامقاني: لم ينصّ فيه بتوثيق و لا مدح انتهى.

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 18 ص 558 الباب 10 من أبواب حدّ المرتدّ الحديث 5.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 213

الذات بل هو كالصبي الذي لو قيل له انّ اللّه تعالى ليس له عين يتخيّل انّه أعمى و لو قيل له انّه تعالى لا سمع له، يظنّ أنّه أصمّ.

و على الجملة فالذي يمكن ان يقال قطعا بلا اىّ تزلزل و ارتياب و تردّد و اضطراب هو انّ من قال بتجسّمه تعالى ملتفتا الى لوازمه و تواليه الفاسدة فهو كافر نجس، و امّا غير ذلك فلا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 215

الكلام حول المجبّرة

و من جملة الفرق المحكومة عليها بالكفر المجبّرة. و لا يخفى أن المجبّرة على قسمين:

أحدهما القائل بالجبر المحض اى القول بصدور الأفعال مطلقا عن اللّه تعالى و انّه الفاعل لأفعال المخلوقين، و كون الإنسان كالجماد فكما انّ الجماد ليست له ارادة و لا يتحرّك الّا بمحرك كذلك الإنسان لا يتحرّك الّا بيد اللّه و لا يصدر منه فعل اختياري ابدا قبيحا كان أو حسنا، فالساجد للّه يتخيّل انّه بنفسه وضع جبهته على الأرض و الحال انّه ليس كذلك بل هو كقطعة حديد في يد الحدّاد يرفعها و ينزلها و يدقّها على قطعة اخرى، و الحاصل انّه

يقول بأنّ اللّه قد اجبر الناس على أفعالهم مطلقا.

و لا أظنّ أنّ عاقلا يتفوّه بأمثال هذه الترّهات و المقالات الفاسدة

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 216

و الأباطيل الكاسدة، كيف و هي خلاف الحسّ و الوجدان و استخفاف بشموخ مقام الإنسان بجعله آلة بلا ارادة و ان قال بها بعض الجهلة المتعصّبون، حتّى انّى قد رأيت في بعض الكتب المعدّة في هذا الموضوع عند بيان عقيدتهم، التصريح بكون الإنسان كالحجر! [1] و غير خفيّ انّ هذا النوع من الجبر مستلزم لإنكار كلّ ما جاء به الشرع، و إبطال أصل الشرعيّات و النّبوّات، و إنزال الكتب، و إرسال الرسل، و خلق الجنّة و النّار، و لم يبق معه مورد و مجال للوعد و الوعيد، و مدح الصلحاء و الأبرار، و ذمّ الفسقة و الأشرار، و عليه يلزم ايضا ان يكون بعث السفراء العظام و إنزال الصحف السماوية الكرام لغوا لا فائدة فيه أصلا، و كذلك يلزم ان يكون خلق الجنّة و النّار عبثا غير ناتج شيئا، حيث انّه بناء على ذلك لم يتحقّق فعل خير الّا بيد اللّه لا باختيار الإنسان فكيف يدخل الجنّة و لما ذا؟ و هكذا لم تقع على ذلك معصية و خطيئة بإرادة العبد، بل الذنوب و المعاصي كلّها صادرة عن اللّه، فلما ذا يعاقب العبد؟ و هل هو الّا العقاب على ما لم يفعله الذي هو قبيح بالضرورة العقلية؟

و لا شكّ في انّ هذا القسم من الجبر كفر و موجب للنجاسة بل هو من أعظم أنواع الكفر و أشدّه لاستلزامه كما ذكرنا تكذيب الأنبياء جميعا و إنكار الكتب كلّها و غير ذلك من التوالي الفاسدة، و اللوازم الباطلة، التي لا

يمكن للمسلم الالتزام بها ابدا.

و كيف يمكن ان يقال انّ شمرا لعنه اللّه لم يقتل الامام ابى عبد اللّه الحسين عليه السلام باختياره و إرادته بل كان قتله و قتل غيره من الأسرة الطاهرة النبويّة و

______________________________

[1]. يشهد لما ذكره دام ظله كلام العلّامة في شرح التجريد قال: انّا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا و حركة الحجر الهابط إلخ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 217

ذرّية الرسول الطيّبة من فعل اللّه سبحانه؟ ما هذا الّا بهتان عظيم.

و قد قذف بهذه الكلمة الاثيمة الكافرة أمّ الفساد و رأس الضلال و الإلحاد عبيد اللّه ابن زياد، عليه لعائن اللّه حيث نسب قتل علىّ بن الحسين عليهما السلام «الشهيد بالطّف» الى اللّه تعالى و ردّ عليه الامام زين العابدين عليه السّلام بقوله:

قتله الناس. «1»

امّا القسم الآخر من المجبّرة فهم القائلون به لكن لا بهذه الشّدّة و انّما يقولون انّ الفعل مقرون بإرادة الإنسان الّا انّه حيث كان إفاضة الوجود و إعطاء القوّة و الإرادة و الإمهال، من اللّه تعالى فالفعل ليس في الحقيقة صادرا عن الإنسان، و الخطايا صادرة و ناشئة عن الإرادة الحاصلة للإنسان بأمر اللّه تعالى.

و هذا القسم من الجبر لا يوجب الكفر لو لم يلتزم و لم يلتفت قائله و المعتقد به بلوازم الجبر المذكورة آنفا في القسم الأوّل لعدم كونه على خلاف ضرورة الإسلام حتّى يقتضي الكفر و النجاسة بل هو مخالف لضرورة مذهب الشيعة حيث انّ الأئمة المعصومين عليهم السلام اجتهدوا بكلّ قواهم و كافّة امكانيّاتهم لإقامة الشيعة على الحدّ الوسط الفاصل بين الجبر و التفويض بقولهم لأجبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين. و حثّهم دائما بذلك الاعتقاد و

اصرّوا على تزريقه في أعماق نفوسهم خلافا لكثير من العامّة كأصحاب الشافعي و المالك و ابى حنيفة بل الأشاعرة من العامّة مطلقا حيث ذهبوا الى ذلك و اعتقدوا بالجبر.

و نحن نقول في مقام الجواب عن القائلين بالجبر: انّ أقوى دليل على بطلانه هو الوجدان [1] و يكفي في تصديق ذلك، الرجوع الى أوّل مرتبة التميز و لا حاجة الى أزيد من ذلك فراجعوا أوّل مرتبة من التميز كي تفقهوا بطلان ما

______________________________

[1]. و لذا قال المحقّق الطوسي في التجريد في جوابهم: و الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا.

______________________________

(1). راجع اللهوف في قتلي الطفوف للسّيّد ابن طاوس قدّس سرّه ص 143.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 218

تعتقدونه و تقولون به.

فهذا الصبي الذي لم يبلغ قد يؤاخذ الجماد على أمر خياليّ عرض له الّا انّه بمجرّد رشده و بلوغه حدّ التميز و الرشد يدع هذا الأسلوب و لا يؤاخذ من لا شعور له و لا ارادة كالجماد على شي ء أبدا، فلو وقع الحجر من يده على الأرض لا يوبّخه و لا يعاتبه و لا يقول له لم سقطت على الأرض بخلاف ما لو ضربه انسان يؤاخذه و يعاتبه و يقول لم تضربني؟ و ترى انّه لو ضربه ضارب بآلة كالخشب و العصا فهو يذمّ الضارب دون آلة الضرب، و لو رماه رام بحجر مثلا فهو يلوم الرامي دون الحجر.

فاللّه تعالى خلق الإنسان و أعطاه القوى و أمهله و جعل و أودع فيه بحكمته البالغة، الإرادة، الّا انّه تعالى جعل له شيئا آخر يسمّى بالاختيار، و الإنسان في اعماله و أفعاله ليس مسلوب الاختيار بل كلّ ما يصدر عنه فإنّما يصدر عنه باختياره و هذا أمر محسوس لا

يقبل الإنكار، فإنّ كلّ فرد من افراد الإنسان يعلم و يدرك من نفسه انّه قادر على إيقاع فعل كذا و تركه بخلاف الجماد مثلا فإنه لا يقدر على ذلك و ليس له اختيار الفعل على الترك، أو الترك على الفعل، و ترجيح أحدهما على الآخر.

و لا يخفى انّ مجرّد إعطاء الاختيار و وساطته مصحّح للمؤاخذة، و هو ملاك العقاب و الثواب.

و كون الخالق تعالى علّة العلل و قيام وجود الإنسان و إرادته و تمام قواه به سبحانه ممّا لا ريب فيه الّا انّه مع ذلك كلّه، له ان يفعل و ان لا يفعل فتصحّ مؤاخذته على فعل القبيح و لو لم يكن له حظّ من هذه القدرة الثمينة و الموهبة الكريمة لما كان لمؤاخذته وجه ابدا كما لا وجه لمؤاخذة الأخرس في يوم القيامة على عدم إقراره بالشهادتين لانّه لم يكن قادرا على التكلّم و الإقرار بهما

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 219

بخلاف من كان ناطقا طلق اللسان قادرا على الإقرار و عدمه فإنّه لو لم يقرّ بهما لصحّ مؤاخذته عقلا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 221

الكلام حول المفوّضة

و هم فرقة قائلون بانعزال اللّه تعالى عن الأفعال و إرجاع الأمور إلى العباد و انّه سبحانه فوّض الأفعال إلى المخلوقين [1] هذا.

و الحقّ انّ التفويض على أقسام:

منها القول بأنّ اللّه لمّا خلق العباد أعطاهم قدرة أغناهم بها عنه فهم بعد ذلك مستقلّون في الأمور قائمون على وفق مشيّتهم و إرادتهم و قدرتهم و لا يحتاجون اليه و الى حوله و قوّته و هو بمعزل عن الأمور لتفويض الأمر إليهم و

______________________________

[1]. قال الشيخ الصدوق في رسالة الاعتقادات: اعتقادنا في الغلاة و المفوّضة انّهم كفّار

باللّه جلّ اسمه و انّهم شرّ من اليهود و النصارى و المجوس و القدريّة و الحرورية و من جميع أهل البدع و الأهواء المضلّة.

و في المكاسب للشّيخ الأنصاري ص 27:. انّ الضروري عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقلّ مغاير لاختيار اللّه كما هو ظاهر قول المفوّضة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 222

ذلك مثل انّ مثريا اعطى فقيرا مالا و امره بالتجارة لنفسه فهذا الآخذ بعد قبضه و أخذه المال المزبور يتّجر لنفسه و لا يحتاج الى المعطى أصلا، و على هذا فاللّه تعالى و ان كان قادرا الّا انّ العبد ايضا قادر لا يحتاج اليه بعد ذلك، غاية الأمر انّ اللّه قادر بذاته، و الإنسان قادر باللّه سبحانه.

و لعلّ الذي حملهم على هذا الاعتقاد هو ما رأوه من القبائح و السوء و الفحشاء الصادرة من الإنسان فزعموا انّه لو لم يقولوا بتفويض الأمور الى العبد لزم نسبة تلك الذنوب و القبائح إليه تعالى فلأجل تنزيه اللّه عن ارتكاب الجرائم قالوا بأنّ اللّه فوّض الأمور إلى العباد و لا دخل له سبحانه في أمورهم أصلا.

و منها القول بتفويض أمر الخلق و الرزق الى بعض عباده كان يقال انّ اللّه لمّا خلق الأرض فوّض الأمر إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخلق هو (ص) ما فيها أو انّه تعالى خلق محمدا صلّى اللّه عليه و آله فوّض إليه أمر العالم فهو الخلّاق للدنيا و ما فيها.

و بطلان كلا القولين واضح لأنّ أزمّة الأمور كلّها بيد اللّه و لا غناء عنه لأحد أبدا و لا يملك العبد في الحقيقة شيئا و اللّه تعالى خلق الخلق و هو مدبّر عالم الوجود و

مديره حدوثا و بقاء و لو لا عناية اللّه تعالى و إفاضة الفيوض الرّبانيّة لما بقي شي ء، و لما استقام أمر.

و على الجملة فحياة الإنسان و تصرّفاته كلّها منوطة باللّه و الخلق كلّهم عياله و في قبضته و محتاجون اليه آنا فآنا. و له القدرة التامّة و السلطنة الكاملة في كلّ آن من الآنات.

و لازم القول بالتفويض على كلا القسمين هو سلب القدرة عن اللّه تعالى و إخراجه عن سلطانه كما ورد عن الامام الصادق عليه السلام: انهم أرادوا ان

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 223

لا ينسبوا الى اللّه القبائح فسلبوا عنه القدرة. [1]

و منها القول بتفويض التكاليف إلى النبي بمعنى انّه لا يحتاج في التشريع الى الوحي لأنّ اللّه تعالى جعل أمر التشريع بيده و فوّضه اليه فكلّما جعله فهو حكم يجب اتّباعه و لا يجوز التخلف عنه.

و منها القول بتفويضها الى علىّ عليه السلام أو اليه و الى الأئمة المعصومين كلّ في زمانه، فهم غير محتاجين بعد ذلك الى اللّه في التكاليف و الأحكام، الى غير ذلك من المقالات الفاسدة و المذاهب الباطلة.

و كلّ هذه الأقسام أيضا باطل مخالف للشّرع لأنّ الأئمة عليهم السلام لا يقولون الّا ما قاله النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو لا يقول الّا ما امره اللّه تعالى به قال اللّه تعالى وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ «1» و امّا قوله تعالى مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2» فليس المراد منه مجي ء الرسول بشي ء من عند نفسه و بدون أخذه من اللّه بل المراد منه وجوب أخذ ما جاء به الرسول المعلوم انّه

من اللّه سبحانه فكلّ ما جاء و اتى به النبي و الأئمّة من عترته صلوات اللّه عليهم أجمعين فهو مأخوذ من اللّه و ان لم يذكر في القرآن تفصيلا.

و على الجملة فالنّبي واسطة في الرسالة لا جاعل الأحكام و التكاليف و مقنّن للقوانين.

______________________________

[1]. أقول: لم أعثر على رواية بهذا اللفظ نعم روى في الوسائل ج 18 ص 558 عن الصادق: الناس في القدر على ثلاثة أوجه رجل يزعم انّ اللّه تعالى اجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه في حكمه فهو كافر و رجل يزعم انّ الأمر مفوّض إليهم فهذا قد أوهن اللّه في سلطانه فهو كافر.

______________________________

(1). سورة النجم الآية 3 و 4 و قوله تعالى قُلْ مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ مٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَ لٰا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ سورة الأحقاف الآية 9.

(2). سورة الحشر الآية 7.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 224

و هنا اشكال و هو انّه «1»: كيف لا دخل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جعل الأحكام، و هذه الروايات المنقولة في كتب الحديث و المجامع المعتبرة مثل الكافي صريحة في انّ النبيّ أضاف الركعتين [1] على ركعتي الظهر و العصر لجهة مذكورة فيها و قد أمضاها اللّه تعالى و أنفذها و لو لا انّ الأحكام مفوّضة من اللّه تعالى اليه لما كان يضيف الركعتين مثلا.

و الجواب عنه: انّ هذه الإضافة كانت بعد استدعائه من اللّه تعالى و قبوله سبحانه لذلك و ليس ضمّ شي ء بعد استدعاء ضمّه من اللّه و قبوله و إمضائه، من باب جعل الأحكام و تشريعه من عند نفسه، و كون الأمر مفوّضا اليه، و

لو كانت هذه الإضافة من قبيل التفويض الواقعي لما احتاجت إلى إمضاء اللّه تعالى و إنفاذه، و الحال انّه نصّ في بعض الروايات على اجازة اللّه لذلك.

كما ورد في الاخبار انّ عبد المطلب خمّس ما له في الجاهلية و لمّا بزغ فجر الإسلام أنفذ اللّه تعالى ذلك [2] و من هذا الباب تحريم اللّه ما حرّم إسرائيل على

______________________________

[1]. من جملة هذه الروايات رواية فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: انّ اللّه عزّ و جلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه فلمّا أكمل له الأدب قال: إنّك لعلى خلق عظيم. ثمّ فوّض إليه أمر الدين و الأمّة ليسوس عباده. ثمّ انّ اللّه عزّ و جلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول اللّه (ص) الى الركعتين ركعتين و الى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلّا في سفر و أفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر و الحضر فأجاز اللّه عزّ و جلّ ذلك كلّه إلخ. الكافي ج 1 ص 266، وسائل الشيعة ج 3 ص 31.

[2]. روى الصدوق. عن علىّ بن ابى طالب عن النبي انّه قال في وصيّة له: يا على انّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه له في الإسلام:

حرّم نساء الآباء على الأبناء فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ لٰا تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ.

و وجد كنزا فاخرج منه الخمس و تصدّق به فانزل اللّه عزّ و جلّ وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ الآية.

و لمّا حضر زمزم سمّاها سقاية الحاجّ فانزل اللّه عزّ و جلّ أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ الْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ الْمَسْجِدِ

الْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، الآية.

______________________________

(1). أورده بعض تلامذة سيدنا الأستاد دام ظلّه العالي.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 225

نفسه، «1» الى غير ذلك من الموارد فإنّها لا تدلّ على التفويض أصلا. [1]

و ما ورد في الاخبار من التعبير بتفويض أمر الدين إلى النبي و الأئمة عليهم السلام.

فمعناه انّهم حافظون لشئون الدين و أمناء اللّه على حدود اللّه و حلاله و حرامه و أوامره و نواهيه، و الّا فهو مخالف لصريح قوله تعالى وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلّٰا وَحْيٌ يُوحىٰ و على الجملة فالقول بالتفويض بأنحاءه المذكورة باطل لا يصار اليه.

قال الشيخ الصدوق في باب اعتقاد نفي الجبر و التفويض: اعتقادنا في ذلك قول الصادق عليه السلام: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين. «2»

و على هذا فالقول به مخالف لمذهب الإماميّة و امّا مخالفته لضروريّ الدين و إيجابه الكفر و النجاسة فهو موقوف باستلزامه تكذيب النبي و إنكار النبوّة و القرآن ايضا.

كما انّ القسم الأوّل منه مستلزم لسلب القدرة و نقض التوحيد، و فيه تكذيب النبي و القرآن لانّ اللّه تعالى يقول في اليهود:

______________________________

و سنّ في القتل مأة من الإبل فأجرى اللّه ذلك في الإسلام.

و لم يكن للطواف عدد عند قريش فسنّ فيهم عبد المطلب سبعة أشواط فأجرى اللّه ذلك في الإسلام إلخ الخصال أبواب الخمسة ح 90.

[1]. يقول المقرّر: هذا مضافا الى عدم الوثوق و الاطمئنان على أمثال هذه الرواية و ذلك لما ورد في الحديث انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقترح على ربّه في شي ء يأمره به «مجمع البحرين مادة قرح، و اقترحت عليه شيئا سئلته إياه من غير رويّة.»

______________________________

(1).

سورة آل عمران الآية 93.

(2). اعتقادات الصدوق المطبوع مع شرح باب حادي عشر ص 98 و مثله كلامه في الهداية ص 5 فراجع و راجع ايضا الكافي ج 1 ص 160 ح 13.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 226

قٰالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ «1» و على هذا فهو كفر و ضلال و المعتقد به كافر نجس هذا.

و امّا سائر الأقسام فليس كفرهم بهذا الوضوح فكلّما لزم منه تكذيب الرسالة مع العلم به و الالتفات اليه فهو ايضا كذلك و الّا فمجرّد القول بالتفويض لا يقتضيه و ان كان على خلاف ضروريّات المذهب فإنّ إنكار ضروريّ المذهب يوجب الخروج عن ربقة التشيّع لا الإسلام، بخلاف تكذيب النبيّ الذي يلزم من إنكار ضروريّ الدين فإنّه يوجب الخروج عن دائرة الإسلام، و الدخول في حوزة الكفر.

تذنيب يناسب المقام

ثمّ ان بعضا ممّن اعتنق تلك المبادئ الفاسدة، و المذاهب و المقالات الكاسدة- الّتي أمضينا الكلام فيها- و غيرها قد يتمسّك بآيات أو روايات، فيفسّرها بحيث تطابق تلك المعتقدات الباطلة، فهنا نقول:

قد يكون التفسير و التوجيه واضح الفساد و البطلان و أقبح من طرح الآية أو الرواية، و من هذا القبيل قول بعض الفلاسفة أنّ المعاد روحانيّ و الجنة و النار ليستا جسمانيّتين و انّ المراد من الجنّة و النعم المعدّة في الآخرة هو النشاط الروحي و انبساط النفس و ابتهاجها في النشأة الآخرة و سرورها بالأعمال الصالحة الّتي قد تزوّد بها الإنسان من دنياه، و المراد من نار الجحيم و العذاب الأليم هو الآلام النفسانية، الى غير ذلك من التّرّهات و الأقاويل الكافرة.

و على الجملة فهذا النوع من

التفسير و التأويل واضح الفساد و موجب

______________________________

(1). سورة المائدة الآية 64.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 227

للكفر و النجاسة فإنّه خلاف الآيات الكريمة الناطقة بالمعاد البدني [1] الناصّة في ذلك.

أضف الى ذلك انّ من يفسّر الآيات بهذا النحو و النسق وفقا لعقيدته الفاسدة فكأنّه يتخيّل و يزعم انّ أحدا من الأكابر و الأصاغر لا يعرف و لا يفهم معناها و انّما هو وحده قد فهمه، و مآل ذلك نزول القرآن لأجله فقطّ، كما انّه يستلزم لغويّة نزوله بالنسبة إلى غيره من الناس حيث انّهم لا يفهمون معنى الآيات و لا يفقهون مغزى معارف الكتاب و مستلزم لاغراء اللّه تعالى عباده بالجهل.

نعم الحكم بكفر القائل بالأمور المزبورة موقوف على علمه و التفاته الى تلك اللوازم.

______________________________

[1]. قال اللّه تعالى أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ سورة يس الآية 77 و 78.

و قال تعالى كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا الْعَذٰابَ سورة النساء الآية 56.

و قال سبحانه وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا قٰالُوا أَنْطَقَنَا اللّٰهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ سورة فصّلت الآية 21.

و قال تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسٰانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظٰامَهُ بَلىٰ قٰادِرِينَ عَلىٰ أَنْ نُسَوِّيَ بَنٰانَهُ سورة القيامة الآية 3 و 4. الى غير ذلك من عشرات آيات صريحة في ذلك.

فانظر بعين الإنصاف فهل يمكن توجيه هذه الآيات الشريفة و هل هي قابلة للتأويل؟ و لذا قال بعض بعد ذكر آية أو لم ير الإنسان، إلى قوله: بكلّ خلق عليهم، و

نقل حكاية أبيّ بن خلف، الواردة في شأن نزول الآية: و هذا ممّا يقطع عرق التأويل بالكليّة.

و قال العلّامة المجلسي رضوان اللّه عليه: اعلم انّ القول بالمعاد الجسمانيّ ممّا اتّفق عليه جميع المليّين و هو من ضروريّات الدين و منكره خارج عن عداد المسلمين و الآيات الكريمة في ذلك ناصّة لا يعقل تأويلها، و الاخبار فيه متواترة لا يمكن ردّها و لا الطعن فيها و قد نفاه أكثر ملاحدة الفلاسفة تمسّكا بامتناع اعادة المعدوم و لم يقيموا دليلا عليه بل تمسّكوا تارة بادّعاء البداهة و اخرى بشبهات واهية لا يخفى ضعفها على من نظر فيها بعين البصيرة و اليقين و ترك تقليد الملحدين من المتفلسفين انتهى.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 228

و قد لا يكون توجيهه و تأويله بهذه المثابة من وضوح بطلانه بل هناك نوع خفاء يمكن عادة توجيهها كذلك، و هنا لا يمكن الحكم بكفر من قال به تمسّكا بالآيات و الروايات لاحتمالها ذلك عرفا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 229

الكلام حول المخالفين

من جملة المباحث الّتي وقعت موردا للنقض و الإبرام و صارت معركة آراء الاعلام هو البحث في طهارة المخالفين و نجاستهم.

فقال صاحب الجواهر قدّس سرّه: الأقوى طهارتهم. وفاقا للمشهور، انتهى و يستفاد منه انّ غير المشهور قائلون بنجاستهم.

و قال صاحب الحدائق: المشهور بين متأخّري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين و طهارتهم، و خصّوا الكفر و النجاسة بالناصب، (الى ان قال:) المشهور في كلام أصحابنا المتقدّمين هو الحكم بكفرهم و نصبهم و نجاستهم و هو المؤيّد بالروايات الإماميّة.

ثم انّه رحمه اللّه ذكر أسماء عدّة من الاعلام و الأكابر القائلين بالنجاسة [1] و

______________________________

[1]. و هم الشيخ ابن نوبخت من متقدّمي الأصحاب

و متكلّميهم و المفيد و الشيخ الطوسي و ابن

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 230

لكن ليس هؤلاء كلّهم من المتقدّمين بل فيهم من كان من المتوسّطين و المتأخرين، فالأولى مراجعة كلمات القدماء ليعرف آرائهم و فتاويهم فإنهم أعمدة الدين و وسائط بيننا و بين الأئمة المعصومين، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و يظهر من كلامه قدّس سرّه انّ منشأ الخلاف في المسئلة و أوّل من قال بالطهارة هو المحقّق صاحب الشرائع و إليك نصّ كلام الحدائق:

انّ من جملة من صرّح بطهارة المخالفين- بل ربّما كان هو الأصل في الخلاف في هذه المسئلة في القول بإسلامهم و ما يترتّب عليه- المحقّق في المعتبر.

أقول: و يرد عليه انّ بعضا من الأركان قبل المحقّق ايضا قد قال بطهارة أهل الخلاف و ليس هو المبتكر لهذا القول و البادي به قال المحقّق في المعتبر:

أسآر المسلمين طاهرة و ان اختلفت آرائهم عدا الخوارج و الغلاة، و قال الشيخ في النهاية بنجاسة المجبّرة و المجسّمة، و خرّج بعض المتأخرين بنجاسة من لم يعتقد الحقّ عدا المستضعف. «1»

و مراده من بعض المتأخّرين هو ابن إدريس حيث قال: المخالف لأهل الحقّ كافر بلا خلاف بيننا. [1]

ثمّ انّ المحقّق قدّس سرّه قد استدلّ على ما ذهب اليه من طهارتهم بأمور:

أحدها ما ذكره بقوله: لنا انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يكن يجتنب سؤر أحدهم و كان يشرب من الموضع الذي تشرب منه عائشة، و بعده لم يجتنب علىّ عليه السلام سؤر أحد من الصحابة مع مباينتهم له و لا يقال: كان ذلك تقيّة لأنّه لا

______________________________

إدريس و العلّامة و ابن برّاج و السيّد المرتضى و المولى محمد صالح المازندراني و المولى أبو الحسن

الشريف ابن الشيخ محمد طاهر و غيرهم.

[1]. السرائر ج 1 ص 356 بحث صلاة الميّت و لفظه: و المخالف للحقّ كافر، بلا خلاف بيننا.

______________________________

(1). المعتبر، الطبع القديم ص 24، الطبع الجديد ج 1 ص 97.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 231

يصار اليه الّا مع الدلالة.

ثانيها ما افاده بقوله: و عن علىّ عليه السلام انّه سئل أ يتوضّأ من فضل جماعة المسلمين أحبّ إليك أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمّر؟ فقال: بل من فضل وضوء جماعة المسلمين فإنّ أحبّ دينكم الى اللّه تعالى الحنيفيّة السهلة السمحة ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه. «1»

أقول: بيان هذه الرواية انّ عدم استعمال سؤرهم أمر مشكل، و في اجتنابه صعوبة و زحمة على العباد، و من المعلوم انّ الإسلام هو الشريعة السهلة السمحة و دين فيه من اليسر و السهولة ما لا يخفى، فلذا لا يجب الاجتناب و لا يلزم تحمّل هذا الأمر الشّاقّ.

و الإيراد عليه في استدلاله هذا بشموله للخوارج و النواصب ايضا مع انّهم كفّار بلا كلام و يجب الاجتناب عنهم قطعا، في غير محلّه.

و ذلك لانّ غرضه هو إثبات طهارتهم في الجملة، و هذا لا ينافي استثناء افراد خاصّة بالدليل المخصّص.

ثالثها: رواية عيص بن القاسم عن ابى عبد اللّه عليه السلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يغتسل هو و عائشة من إناء واحد. «2»

رابعها قوله: و لأنّ النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة.

ثم قال: امّا الخوارج فيقدحون في علىّ عليه السلام و قد علم من الدين تحريم ذلك فهم بهذا الاعتبار داخلون في الكفر لخروجهم عن الإجماع و هم المعنيّون بالنّصّاب و امّا الغلاة فخارجون عن الإسلام و ان

انتحلوه انتهى.

و حيث انّ صاحب الحدائق كان قائلا بنجاسة المخالفين فقد أجاب عن

______________________________

(1). من لا يحضره الفقيه ج 1 باب المياه ح 16.

(2). وسائل الشيعة ج 1 ص 168 ب 7 من أبواب الأسئار ح 1.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 232

تلك الوجوه.

امّا عن حديث السؤر و حكاية عائشة فبانّ الولاية الّتي هي معيار الكفر و الايمان إنّما نزلت في آخر عمره صلّى اللّه عليه و آله في غدير خم و المخالفة فيها المستلزمة لكفر المخالف انّما وقعت بعد موته فلا يتوجّه الإيراد بحديث عائشة و الغسل معها من إناء واحد و مساورتها كما لا يخفى و ذلك لأنّها في حياته على ظاهر الايمان و ان ارتدّت بعد موته كما ارتدّ ذلك الجمّ الغفير المجزوم بإيمانهم في حياته صلّى اللّه عليه و آله.

ثم نقض على المحقّق بما حاصله انّه يعترف بكفر من أنكر ضروريّا من ضروريّات الدين و ان لم يعلم انّ ذلك منه عن اعتقاد و يقين و لا يحكم بنجاسة من يسبّ أمير المؤمنين عليه السلام و أخرجه قهرا مقادا يساق بين جملة العالمين.

و نحن نقول: بالنسبة إلى قصّة عائشة: انّ ولاية أمير المؤمنين عليه السلام و وصايته كانت امرا مسلّما من أوائل أمر الدعوة و ظهور الإسلام خصوصا بالنسبة الى من كان في بيت رسول اللّه كما يدلّ على ذلك حديث يوم الدار [1]، و عداوة عائشة لأمير المؤمنين عليه السلام ايضا لم تكن منحصرة بما بعد وفاة النبي

______________________________

[1]. و هو انّه لمّا نزلت قوله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء الآية 214) صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله طعاما و جمع بنى عبد المطلب و

هم يومئذ أربعون رجلا فأكلوا جميعا. و فعل ذلك في يوم بعده و بعد ان أكلوا- من الطعام القليل- حتّى ما لهم بشي ء حاجة.

تكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا بنى عبد المطلب انّى و اللّه ما اعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به انّى قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني اللّه تعالى ان أدعوكم اليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟ قال على عليه السلام: فأحجم القوم عنها جميعا و قلت: و انّى لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا. آنا يا نبىّ اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: انّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا قال: فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك ان تسمع لابنك و تطيع، راجع الغدير ج 2 ص 278 و قد نقله عن تاريخ الطبري ج 2 ص 216 و عن جماعة من أهل السنّة.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 233

الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارتحاله بل هي لا تزال كذلك في حياته و بعد وفاته. [1]

و يرد على ما أورده من النقض بأنّ كلّ ما يؤتى به بالنّسبة الى أمير المؤمنين من الهتك و الظلم فليس من باب إنكار الضروري للدّين و لا من باب الإنكار بل ربّما يكون منشأ ذلك هو غلبة الهوى.

و أجاب عن حديث الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين بوجهين:

أحدهما: انّه مصادرة بالمطلوب.

ثانيهما: انّا لا نسلّم انّ المراد بالإسلام في الرواية معناه الأعمّ، بل المراد منه هو المعنى المرادف للايمان.

______________________________

[1]. كما يفصح عن

ذلك ما ورد في حديث الطير من انّ عليّا عليه السلام قد طرق الباب ليدخل على رسول اللّه ثلاث مرّات و لم تأذن له ان يدخل حتّى قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الثالثة:

يا عائشة افتحي له الباب. و ورد في آخر هذا الخبر انّ النبيّ قال لها: ما هو بأوّل ضغن بينك و بين علىّ و قد وقفت على ما في قلبك لعلىّ انّك لتقاتلينه. راجع البحار ج 38 ص 348.

و ايضا ما رواه عن كشف اليقين عن علىّ بن ابى طالب عليه السلام قال: دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل ان يضرب الحجاب و هو في منزل عائشة فجلست بينه و بينها فقالت:

يا بن ابى طالب ما وجدت مكانا لاستك غير فخذي؟ امطه عنى فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين كتفيها ثم قال لها: و يك ما تريد من أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين و قائد الغرّ المحجّلين.

راجع البحار ج 22 ص 244.

و ما حكاه ابن ابى الحديد عن شيخه اللمعاني في علّة ضغنها- بعد كلام طويل له-: ثم كان بينها و بين علىّ عليه السلام في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحوال و أقوال كلّها تقتضي تهييج النفوس نحو قولها له و قد استدناه رسول اللّه فجاء حتّى قعد بينه و بينها و هما متلاصقان: اما وجدت مقعدا لكذا- لا تكنّى عنه- الّا فخذي و نحو ما روى انّه سايره يوما و أطال مناجاته فجاءت و هي سائرة خلفها حتّى دخلت بينهما و قالت: فيم أنتما فقد أطلتما! فيقال ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله غضب

ذلك اليوم. راجع شرح ابن ابى الحديد ج 9 ص 194 و قال في ص 199: هذه خلاصة كلام الشيخ ابى يعقوب رحمه اللّه و لم يكن يتشيّع و كان شديدا في الاعتزال.

و في نهج البلاغة خطبة 155:. و امّا فلانة فأدركها رأى النساء و ضغن غلا في صدرها كمرجل القين و لو دعيت لتنال من غيري ما أنت الىّ لم تفعل إلخ.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 234

توضيحه انّا لو كنّا نعلم انّ المراد التوضّؤ من سؤر المخالفين لكان هذا دليلا على المطلوب و لكن الرواية لم تدلّ على أزيد من جواز الوضوء من فضل جماعة المسلمين، و من الممكن فرض كونهم من موالي أمير المؤمنين و محبّيه و أشياعه لا من المخالفين، و استشهد لذلك بقول بعض العلماء الأعيان فراجع.

ثم أورد على المحقّق- فيما قاله في الخوارج من انّهم المعنيّون بالنصاب- بالخروج عن مقتضى النصوص المستفيضة في الباب و عدم موافق له في ذلك لا قبله و لا بعده من الأصحاب.

و المستفاد من إيراده هذا هو انّ النواصب مطلق المخالفين لا طائفة خاصّة منهم على ما افاده المحقّق من تفسير الخوارج بهم.

و في هذا المطلب و ما ذكره قبل ذلك ما لا يخفى.

ثمّ انّه رحمة اللّه عليه ذكر أخبارا دالّة- عنده و بزعمه- على كفر المخالفين و نجاستهم- دفعا لما أورده المحقق في الوجه الرابع من انّ النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة- و نحن نذكر تلك الاخبار و نتعرّض لما فيها.

قال: فمنها ما رواه في الكافي بسنده عن مولانا الباقر عليه السلام قال: انّ اللّه عزّ و جلّ، نصب عليّا (عليه السلام) علما بينه و بين خلقه فمن عرفه

كان مؤمنا، و من أنكره كان كافرا، و من جهله كان ضالّا. «1»

و فيه انّ الظاهر منها بقرينة قوله: و من جهله كان ضالّا، هو إنكار الولاية عن علم و فهم، لانّ الجهل به عليه السلام هو الجهل بشامخ مقامه و ان عرف شخصه فمن جهل أمر الولاية فهو ضالّ، و في قبالة من أنكر عالما بعلوّ شأنه و رفعة مقامه و سموّ مكانته و انّه المنصوص بالخلافة قطعا، و لا إطلاق لقوله: و من أنكره كان كافرا، حتّى يشمل الجاهل ايضا حيث انّ الجملة الأخيرة متعرّضة

______________________________

(1). أصول الكافي ج 1 ص 437.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 235

للجاهل بالخصوص.

فحاصل الرواية انّ العارف بشأنه مؤمن، و المنكر الجاهل ضالّ، و المنكر العالم كافر، فلم يثبت الكفر الّا للمنكر العالم و لا نتضائق عن ذلك فإنّه أمر مسلّم مفروغ عنه، فإنّ الإنكار مع العلم و اليقين يستلزم تكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكن اين هنا و مدّعى صاحب الحدائق من كفر مطلق المخالفين مع انّ أكثرهم ليسوا من المنكرين عن علم و يقين بل منشأ إنكار أكثرهم هو الجهل و الشبهة فالرواية على خلاف مدّعاه أدلّ ممّا استدلّ له بها.

و ان شئت مزيد توضيح للمقام نقول: انّ الإنكار على ثلاثة أقسام:

1- الإنكار مع العلم.

2- الإنكار مع الشك و هذا لا يتحقّق الّا بمعنى انّه لو كان في الواقع فهو ينكره، و الّا فالشك لا يجامع الإنكار لأنّ معنى الشك هو احتمال الصّحّة كاحتمال البطلان و الدوران بينهما فكيف يمكن إنكار شي ء مع احتمال صحّته؟

3- الإنكار مع الجهل المركّب و هذا في الحقيقة ليس إنكارا بل هو الجهل المحض و ان

كان إنكارا بالنسبة إلى معتقدنا، و الرواية متعرضة للاوّل و الثالث و انّ المنكر بالنحو الأوّل كافر، و بالنحو الأخير ضالّ، لكن لا يخفى انّ الإنكار بالنحو الأخير أيضا قسمان:

فتارة لا ينافي إنكاره التصديق الإجمالي بما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نظير قطع الفقيه و افتاءه بشي ء فهو ينكر ما يخالفه لكنّه بحيث لو علم انّ الحقّ هو ما يخالف قوله لأقرّ بذلك و اعترف بخطئه.

و اخرى ينافيه بحيث ينكر شيئا مصرّا عليه حتّى و لو علم بخطئه كمن يقول: انّى لا أقبل أمر كذا و ان كان حقّا في الواقع، فإنكار هذا الشخص ينافي التصديق الإجمالي و يرجع امره الى القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة، و على اىّ

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 236

حال فلا يصحّ التمسّك بهذه الرواية في إثبات دخل الولاية في تحقّق الإسلام مضافا الى الإقرار بالشهادتين.

و منها: عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: انّ عليّا (عليه السلام) باب من أبواب الجنّة فمن دخل بابه كان مؤمنا و من خرج من بابه كان كافرا و من لم يدخل فيه و لم يخرج منه كان في الطبقة الذين للّه عزّ و جلّ فيهم المشيئة. «1»

أقول: الظاهر انّ المراد من قوله: فمن دخل بابه إلخ هو المصدّق للولاية المعترف بالوصاية فهو المؤمن حقّا، و من قوله (ع): و من خرج من بابه إلخ هو المنكر لها عن علم و عرفان، فهو الكافر، و من قوله: من لم يدخل و لم يخرج إلخ هو المستضعف امّا لضعف عقله و دركه أو لعدم مساعدة الوسائل و التوفيق للعلم و ان كان بحيث لو ساعدته الوسائل لعلمها فهو في الطبقة الذين للّه

عزّ و جلّ فيهم المشيئة و امره موكول الى اللّه يحكم فيه ما يريد.

و هذه ايضا لا تدل على مدّعاه حيث انّها تدلّ على كفر الخارج عن باب الولاية عالما عارفا، و نحن ايضا نقرّ و نعترف بذلك، و انّما النزاع في كفر مطلق المخالف و لم يثبت ذلك.

و منها: عن الصادق عليه السلام قال: من عرفنا كان مؤمنا و من أنكرنا كان كافرا، و من لم يعرفنا و لم ينكرنا كان ضالّا حتّى يرجع الى الهدي الذي افترضه اللّه عليه من طاعتنا الواجبة فان مات على ضلالته يفعل اللّه به ما يشاء. «2»

أقول: انّ معنى قوله عليه السلام: يفعل اللّه به ما يشاء، هو انّه يمكن مساعدة وسائل المغفرة كما انّه يمكن عدم مساعدتها له فقد ورد في بعض الروايات شفاعة أمير المؤمنين عليه السلام للمخالف إذا لم يكن معاندا

______________________________

(1). أصول الكافي ج 2 ص 389.

(2). أصول الكافي ج 1 ص 187.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 237

له عليه السلام.

و معنى قوله: لم يعرفنا و لم ينكرنا، هو الساكت عن أمر الولاية كمن يقول عند ذكر هذه الأمور: ما لنا و الغور فيها ذروها بحالها حقّا كانت أو باطلا.

و هذه الرواية أيضا لا تدلّ على مدّعاه بل هي صريحة في انّ مجرّد عدم قبول الولاية لا يوجب الكفر بل يوجب الضلالة.

نعم نقل بعد هذه الاخبار روايات تدلّ بإطلاقها على كفر المخالفين.

و منها ما رواه الصدوق عن ابى عبد اللّه عليه السلام: انّ اللّه تبارك تعالى جعل عليّا عليه السلام علما بينه و بين خلقه ليس بينهم و بينه علم غيره فمن تبعه كان مؤمنا و من جحده كان كافرا و من شكّ

فيه كان مشركا. «1»

فانّ قوله عليه السلام: و من جحده كان كافرا، و ان كان ظاهرا في الجحد عن علم و يقين الّا انّه عليه السلام صرّح بعد ذلك بشرك الشاكّ ايضا و عندئذ يقع التعارض بينها و بين ما مضى من الاخبار الدّالّة على ضلالة من لم يعرفهم و لم ينكرهم، و عدم شركه.

و يمكن ان يجمع بينهما بأحد وجهين:

أحدهما: بالإطلاق و التقييد فانّ قوله عليه السلام: من لم يعرفنا و لم ينكرنا مطلق يشمل الشاك و غيره.

و امّا قول ابى جعفر عليه السلام في هذه الرواية: و من شكّ فيه كان مشركا خاصّ بحال الشك، و النتيجة اختصاص الضلالة و عدم الكفر بمن لم يعرفهم لا مع الشك بل لعدم انقداح الاحتمال فيه حتّى يحقّق و تتمّ عليه الحجّة، فلو انقدح فيه الاحتمال و لم يعتن به و ترك الفحص و التحقيق و التنقيب و بقي على ما كان عليه من الشك يكون مشركا فكأنّه لا يريد التصديق الإجمالي للنّبي صلّى اللّه عليه

______________________________

(1). ثواب الأعمال و عقاب الأعمال ص 249.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 238

و آله حيث انّ الشاك في التكليف الاعتقادي المحتمل له يجب عليه الفحص و النظر، و معنى عدم نظره و تحقيقه هو عدم قبوله و تسليمه له لو كان في الواقع كذلك و لا يجري أصالة البراءة أو الاستصحاب في الأمور الاعتقادية- بخلاف احتمال التكليف في غير الاعتقادات من الأمور التكليفية- بل الواجب هو الاجتهاد و الفحص بمجرّد الاحتمال و الشك، كما انّه يجب النظر في المعجزة لتبيّن صدق مدّعى النبوّة و كذبه فربّما يكون صادقا و مرسلا من اللّه، فلو ترك النظر فيها فلم يصدّقه

يكون كافرا.

لا يقال: انّ مقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل في الصورة الأولى أيضا هو وجوب الفحص فمع تركه يكون كالثاني فلا فرق بينهما أصلا.

لأنّا نقول: ليس هناك احتمال الضرر حتّى يجب دفعه حيث انّ المفروض عدم انقداح الاحتمال أصلا و هذا أمر جار في مطلق الأمور الاعتقادية حتّى بالنسبة إلى الاعتقاد بمبدإ الوجود، فلو كان قاصرا لم ينقدح فيه احتمال وجود المبدأ من رأس و لم ينظر في الأدلّة و الشواهد حتّى يوحّد اللّه تعالى و يؤمن به، فهو لا يستحقّ العقاب و يكون امره الى اللّه و معه قال اللّه تعالى وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» و ليس المقصود من البعث مجرّده حتّى و لو بلا وصول أو بلا انقداح الاحتمال.

ثانيهما: ان يقال: انّ المراد من الشك في علىّ عليه السلام الموجب للكفر هو ما يلازم الشّك في النبوّة كان يحتمل انّه اصطفاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و نصبه وصيّا لكونه صهرا له و انّه من أسرته، و بعبارة أخرى قد انتخبه للوصاية من عند نفسه و إرضاء لهواه، نعوذ باللّه من ذلك.

و يؤيّد ذلك ما نطقت به التواريخ من سؤال بعض انّه هل كان نصب علىّ

______________________________

(1). سورة الإسراء، الآية 15.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 239

للخلافة من عند نفسه (ص) أو بأمر اللّه تعالى؟ فهذا الشك ملازم للشك في النبوّة و لذا يوجب الكفر، بل ربّما يوجب ردّ أمر اللّه تعالى كما يشهد بذلك ما نقل في ذيل آية سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ، لِلْكٰافِرينَ لَيْسَ لَهُ دٰافِعٌ من انّ واحدا منهم قال: اللّهم ان كان هذا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. [1]

و من جملة

تلك الروايات ما عن الصادق عليه السلام قال: انّ عليّا عليه السلام باب هدى من عرفه كان مؤمنا و من خالفه كان كافرا و من أنكره دخل النار. [2]

و منها ما عن الصادق عليه السلام ايضا قال: الامام علم بين اللّه عزّ و جلّ و بين خلقه، من عرفه كان مؤمنا و من أنكره كان كافرا. «1»

تقريب الاستدلال انّ الإنكار و ان كان بحسب ما ذكر سابقا ظاهر في الإنكار عن علم و يقين الّا انّه يمكن شموله هنا للإنكار عن جهل ايضا حيث لا تعرّض هنا لصورة الجهل بالخصوص كي يختصّ الإنكار بصورة العلم، بخلاف الروايات المذكورة سابقا فإنّها متعرّضة لحال الجهل ايضا نظير قوله عليه السلام: و من جهله كان ضالّا.

______________________________

[1]. فعن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليّا و قال: من كنت مولاه فعلىّ مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّ (ص) النعمان بن الحارث الفهريّ فقال: أمرتنا عن اللّه ان نشهد ان لا إله إلّا اللّه و انّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلىّ مولاه، فهذا شي ء منك أو أمر من عند اللّه؟ فقال: و اللّه الذي لا إله الّا هو انّ هذا من عند اللّه، فولّى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله، و انزل اللّه تعالى سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ. راجع مجمع البيان ج 5 ص 352.

[2]. ثواب

الأعمال و عقاب الأعمال ص 248 و لفظه هكذا: عن محمد بن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: علىّ عليه السلام باب الهدى من خالفه كان كافرا و من أنكره دخل النار.

______________________________

(1). كمال الدين و تمام النعمة ص 412 ب 39 و حكاه في البحار ج 23 ص 88.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 240

و في الأمالي بسنده عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله انّه قال لحذيفة اليماني:

يا حذيفة انّ حجّة اللّه عليكم بعدي علىّ بن ابى طالب عليه السلام، الكفر به كفر باللّه سبحانه، و الشرك به شرك باللّه سبحانه، و الشك فيه شكّ في اللّه سبحانه، و الإلحاد فيه إلحاد في اللّه سبحانه و الإنكار له إنكار للّه سبحانه و الايمان به ايمان باللّه تعالى، لأنّه أخو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه و امام أمّته و مولاهم و هو حبل اللّه المتين و عروته الوثقى الّتي لا انفصام لها. «1»

أقول: يمكن الخدشة في دلالة هذه الرواية فإنّ ظاهر قوله عليه السلام:

الكفر به إلخ هو الكفر مع العلم بأنّ اللّه جعله علما و حجّة و كذا الشّك فيه مع العلم بنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله شكّ في اللّه لانّ معناه الشّك في صحّة النصّ المزبور فكأنّه شكّ في كلام اللّه تعالى، و على هذا فلا دلالة ظاهرة لهذه الرواية على ما كان بصدده.

و منها ما رواه الصّحاف قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى:

فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فقال: عرف اللّه تعالى ايمانهم بموالاتنا و كفرهم بها يوم أخذ عليهم الميثاق و هم ذرّ في صلب آدم. «2»

الى غير ذلك من الروايات التي

تمسّك بها صاحب الحدائق رضوان اللّه عليه على كفر المخالفين المنحرفين عن ولاية أمير المؤمنين و أولاده الطيّبين فراجع.

و هي معارضة لما تقدّم سابقا من الروايات الشارحة لمفهوم الإسلام الدّالة على عدم كون الولاية شرطا في الإسلام و انّها شرط الايمان و انّما ملاك الإسلام و تمام حقيقته هو الإقرار بالشهادتين.

______________________________

(1). أمالي الصدوق، م 36 ص 119.

(2). أصول الكافي ج 1 ص 426 و آلائه: سورة التغابن الآية 2.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 241

و قد جمع بينها بنحوين:

أحدهما: انّ الكفر الذي أطلق عليهم في هذه الاخبار هو الكفر الحقيقي و ان كانوا مسلمين في الظاهر بحسب الروايات المتقدّمة فتجري عليهم أحكام الإسلام من طهارة البدن و جواز المناكحة و صيانة المال و حقن الدم و الموارثة فهم مخلّدون في النار لما ذكر من انّهم كفّار حقيقة و واقعا.

ثانيهما: حمل كفرهم على بعض معانيه و مرتبة من مراتبه و هو كفر الترك حيث انّهم تركوا و أضاعوا ما أمر اللّه تعالى به فالكفر هنا نظير كفر من ترك الحج الذي نصّ عليه في القرآن الكريم بقوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ «1» و ايضا نظير ما ورد من انّ تارك الصلاة كافر «2» و تارك الزكاة كافر. «3»

و أورد في الحدائق على الوجه الأوّل من انّهم مسلمون ظاهرا و كفّار حقيقة بأنه لم يقم دليل على ذلك في غير المنافقين في وقته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المتبادر من إطلاق الكفر حيث يذكر انّما هو ما يكون مباينا للإسلام و مضادّا له في الأحكام إذ هو المعنى

الحقيقي للّفظ.

لكنّ الإنصاف عدم ورود اشكاله و ذلك لعدم المناص عن الجمع بين الاخبار فإذا كان بعض الروايات ناطقة بكفر المخالفين، و بعضها ناطقة بخلاف ذلك صريحة في إسلام المقرّ بالشهادتين فما يصنع هناك لو لم يجمع بينهما كذلك. و لكنه رضوان اللّه عليه لم يتعرّض للاخبار المعارضة و لم يذكرها أصلا

______________________________

(1). سورة آل عمران الآية 97.

(2). وسائل الشيعة ج 3 ص 28 ب 11 من أعداد الفرائض ح 4.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، در يك جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار؛ ص: 241

(3). وسائل الشيعة ج 6 ب 4 من أبواب ما تجب فيه الزكاة باختلاف يسير لفظا.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 242

مع صراحتها في كون الولاية شرطا في الايمان لا في الإسلام، و انّ المعيار الأصيل في الإسلام هو شهادة التوحيد و الرسالة.

ثمّ انّ له رحمة اللّه عليه استدلالا آخر على كفر المخالفين و نجاستهم و هو مركّب من صغرى و كبرى مستظهرا لهما من الاخبار، و محصّل هذا البرهان انّ كلّ من كان مخالفا لعلىّ عليه السلام فهو ناصبيّ، و كلّ ناصبيّ كافر نجس، و نتيجة هاتين المقدّمتين نجاسة مطلق المخالف و كفره.

و استدلّ على الصغرى بروايات منها رواية معلّى بن خنيس قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنّك لا تجد أحدا يقول: انا أبغض آل محمّد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انّكم تتولّونا و تتبرّؤون من أعدائنا. «1»

و منها ما عن مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال و مكاتباتهم لمولانا

ابى الحسن علىّ بن محمّد الهادي عليه السلام في جملة مسائل محمّد بن علىّ بن عيسى قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه الى أكثر من تقديمه الجبت و الطاغوت و اعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب. «2»

و امّا الروايات الدّالة على نجاسة الناصب فمنها ما رواه في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن ابى يعفور عن الصادق عليه السلام قال: لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام فانّ فيها غسالة ولد الزنا و هو لا يطهر إلى سبعة آباء و فيها غسالة الناصب و هو شرّهما، انّ اللّه لم يخلق خلقا شرّا من الكلب و ان

______________________________

(1). معاني الأخبار ص 365.

(2). السرائر ج 3 ص 583.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 243

الناصب أهون على اللّه تعالى من الكلب «1» الى غير ذلك ممّا تمسّك به من الروايات.

و فيه انّه و ان كان قد ورد إطلاق الناصبي على المخالف و ورد أيضا نجاسة الناصب و كفره، الّا انّ ورود الروايات الصريحة في كفاية الشهادتين في تحقّق الإسلام و انّ الإقرار بهما هو الملاك و الميزان، ايضا غير قابل للإنكار و عندئذ فلا بدّ من الجمع بينهما بنحو يرتفع التنافي فنقول:

النصب المذكور في الروايات التي تمسّك بها صاحب الحدائق هو مجرّد العداوة و المراد من الكفر هنا هو بعض مراتبه أو معانيه، و امّا الحكم بعدم حرمة ماله و نفسه فهو مترتّب على النصب بمعناه المصطلح المعروف. و كيف يمكن الحكم بكفر مطلق من قدّمهما و ان كان مقرّا بخلافة أمير المؤمنين لكنه يراه رابع خلفاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم؟ و على

الجملة فهم ايضا يحبّون و يقرّون بفضائله و يعترفون بمناقبه الضاحية.

و قد وقعت- في المرّة الاولى من تشرّفي بحجّ بيت اللّه الحرام- قضيّة لطيفة يناسب ذكرها في المقام و هي انّه: عند ما تشرّفنا بالمدينة الطيبة لزيارة قبر النبيّ الأقدس و قبور الأئمة عليهم السلام فقد سمحت بنا الظروف و ساعدنا الأمر فكنّا نصلّي بالناس جماعة في مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و اذّن مؤذننا و اجهر بشهادة الولاية فأفضى المخبر الدؤلي هذه القضيّة إلى قاضي القضاة و أخبره أنّ مؤذّن جماعة الشيعة قال في أذانه: اشهد انّ عليّا وليّ اللّه، و لكن القاضي اجابه: و انا أيضا أقول: اشهد انّ عليّا ولى اللّه أ فهل أنت تقول اشهد انّ عليّا عدوّ اللّه؟ فأجابه بقوله: لا و اللّه و انا أيضا أقول: انّه وليّ اللّه و على الجملة فقاضيهم ايضا قد صرّح بأننا نقول انّه وليّ اللّه غاية الأمر انّا لا نقول به في الأذان، و بذلك

______________________________

(1). وسائل الشيعة ج 1 ص 159 ب 11 من الماء المضاف ح 4.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 244

قضى على الأمر و أطفئت نائرة الفتنة.

و يؤيّد ما ذكرناه- في الجمع بين الاخبار- من ترتّب أحكام الكفر على النصب المصطلح لا مطلق الانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام انّ في بعض الروايات يقول: و فيهم ناصبيّ، فهذه الجملة ظاهرة بل صريحة في عدم كون مطلق المخالف ناصبيّا و انّ بعضهم كذلك.

ثمّ انّ له رضوان اللّه عليه كلاما آخر في هذا المقام افاده تتميما للبحث و هذا لفظه:

لا يخفى انّه على تقدير القول بالنجاسة كما اخترناه فلو ألجأت ضرورة التقيّة إلى المخالطة جازت المباشرة دفعا للضرر

كما أوجبته شرعيّة التقية في غير مقام من الأحكام الّا انّه يتقدّر بقدر الضرورة فيتحرّى المندوحة مهما أمكن.

ثم قال: بقي الكلام في انّه لو زالت التقيّة بعد المخالطة و المباشرة بالبدن و الثياب فهل يجب تطهيرها أم لا، إشكال ينشأ من حيث الحكم بالنجاسة و انّما سوّغنا مباشرتها للتقيّة و حيث زالت التقيّة فحكم النجاسة باق على حاله فيجب إزالتها إذ لا مانع من ذلك، و من حيث تسويغ الشارع المباشرة و تجويزه لها أوّلا فما اتى به من ذلك أمر جائز شرعا و هو حكم اللّه تعالى في حقّه في تلك الحال و عود الحكم بالنجاسة على وجه يوجب التطهير بعد ذلك يحتاج الى دليل. الى آخر كلامه.

أقول: يستفاد من ملاحظة كلامه هنا انّ النزاع بينه و بين المشهور في الحقيقة لفظيّ لأنّه قد ثبت معاشرة الأئمة الطاهرين سلام اللّه عليهم، و أصحابهم و لا يزال المؤمنون من بعدهم كذلك في مختلف الأعصار و الأمصار إلى زماننا هذا، فإذا لم يلزم التطهير مع ثبوت المباشرة و المزاولة معهم من أوّل الأمر الى هذا الزمان طوال أعصار طويلة و ان كانت المعاشرة تقيّة فهذا عين القول

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 245

المشهور اى القول بطهارتهم و قد علمت انّه استشكل في لزوم التطهير بعد زوال التقيّة، و من المعلوم ان مقتضى الاشكال و الشكّ هو البراءة.

و بعبارة اخرى: ان المشهور قد أفتوا بجواز معاشرتهم و صيانة أموالهم و دمائهم لكونهم طاهرين، و صاحب الحدائق يقول بذلك للتقيّة، و على هذا فلا فائدة في هذا النزاع و لا تترتّب عليه ثمرة الّا في موارد نادرة لا تكون هناك تقيّة حيث يقول صاحب الحدائق هناك

بوجوب التحرّز و الاجتناب دون المشهور.

و ان شئت فقل: انّ المشهور القائلين بإسلامهم لا يقولون به في تمام الشئون و جميع المراتب ظاهرا و واقعا بل غرضهم ترتّب خصوص هذه الأحكام المذكورة من أحكام الإسلام و الّا فهم لو ماتوا على ذلك و بلا توبة يحشرون في الآخرة كفّارا.

ثم انّه رحمة اللّه عليه قد نسب القول بالكفر و النجاسة إلى القدماء على ما مرّ سابقا.

و لا يخفى انّ هذا غير سديد الّا على ما استفاده من الاخبار من كون مطلق المخالف ناصبيّا و من المعلوم انّ كلّ ناصبيّ نجس، و على الجملة فقد نسب ما استفاده من الاخبار الى القدماء و الّا فلا تصريح في كلماتهم على نجاسة العامّة بل المتيقّن من قولهم هو نجاسة الناصب المصطلح المعروف. [1]

______________________________

[1]. أقول: و قد استدلّ علم الهدى السيّد المرتضى أعلى اللّه مقامه على نجاسة غير المؤمن بقوله تعالى كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللّٰهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ سورة الانعام الآية 125 و بقوله تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ، سورة آل عمران الآية 19 و قوله تعالى وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ، سورة آل عمران الآية 85 و الايمان يستحيل مغايرته للإسلام، فمن ليس بمؤمن ليس بمسلم.

و ردّ عليه فخر المحقّقين بقوله: و ليس بجيّد لقوله و تعالى قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا سورة الحجرات الآية 14 و لقوله عليه السلام: أمرت أن أ قاتل الناس حتّى يقولوا:

لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه، و المراد بالايمان هنا الإسلام استعمالا للفظ الخاص في العام.

نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، ص: 246

فتحصّل من ابحاثنا الماضية و ما ذكرناه في هذا

المقام انّ ما يتحقّق به الإسلام هو الإقرار بالشهادتين فقط بشرط عدم إظهار ما يخالف الإسلام كإنكار الضروريّ و ثبت ايضا انّ الغلاة و الخوارج منكرون للضروريّ و محكومون بالكفر.

________________________________________

گلپايگانى، سيد محمد رضا موسوى، نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، در يك جلد، دار القرآن الكريم، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.